للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٦٥٦٢٤ - قال مقاتل بن سليمان: {واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ} وما تنحتون مِن الأصنام (١) [٥٥٠١]. (ز)


[٥٥٠١] اختُلِف في تأويل قوله تعالى: {وما تعملون} على قولين: الأول: أنّ «ما» مصدرية، والمعنى: والله خلقكم وعملَكم. والثاني: أنّ «ما» موصولة، والمعنى: والله خلقكم والذي تعملونه.
وزاد ابنُ عطية (٧/ ٢٩٩) قولين آخرين، وهما: الثالث: أنّ «ما» نافية، والمعنى: والله خلقكم وأنتم لا تعملون شيئًا في وقت خلقكم ولا قبله، ولا تقدرون على شيء. والرابع: أنّ «ما» استفهاميّة.
وعلَّقَ ابنُ عطية (٧/ ٢٩٩) على القول الأول -وهو قول جماعة من المفسرين-، فقال: «هذه الآية عندهم قاعدة في خلق أفعال العباد، وذلك موافق لمذهب أهل السنة في ذلك».
وعلَّقَ ابنُ جرير (١٩/ ٥٧٥) على القول الثاني بقوله: «معنى الكلام عند ذلك: واللهُ خلقكم والذي تعملونه، أي: والذي تعملون منه الأصنام، وهو الخشب، والنحاس، والأشياء التي كانوا ينحتون منها أصنامهم، وهذا المعنى الثاني قصد -إن شاء الله- قتادة بقوله: ... بأيديكم».
وبيَّن ابنُ كثير (١٢/ ٣٦ بتصرف) أنّ القولين الأول والثاني متلازمان، ولكنه مال إلى الأول، فقال: «كلا القولين متلازم، والأول أظهر؛ لما رواه البخاري في كتاب أفعال العباد ... عن حذيفة مرفوعًا، قال: «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته»».
ورجَّحَ ابنُ القيم (٢/ ٣٧٠ - ٣٧٣) القولَ الثانيَ استنادًا إلى السياق، ونظائرها في القرآن، والدلالة العقلية، وانتَقَدَ القولَ الأولَ، قال ابنُ القيم: «ظن كثير من الناس أن قوله تعالى: {واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ} أنها مصدرية، واحتجوا بها على خلق الأعمال، وليست مصدرية، وإنما هي موصولة، والمعنى: والله خلقكم وخلق الذي تعملونه وتنحتونه من الأصنام، فكيف تعبدونه وهو مخلوق لله، ولو كانت مصدرية لكان الكلام إلى أن يكون حجة لهم أقرب من أن يكون حجة عليهم؛ إذ يكون المعنى: أتعبدون ما تنحتون والله خلق عبادتكم لها؟ فأي معنى في هذا، وأي حجة عليهم؟ والمقصود أنه كثيرًا ما تدخل إحداهما على الأخرى ويحتملها الكلام سواء. والصواب أنها موصولة، وأنها لا تدل على صحة مذهب القدرية بل هي حجة عليهم مع كونها موصولة ... فالله سبحانه أنكر عليهم عبادتهم الأصنام، وبين أنها لا تستحق العبادة، ولم يكن سياق الكلام في معرض الإنكار عليهم ترْك عبادته، وأن ما هو في معرض الإنكار عبادةُ من لا يستحق العبادة. فلو أنه قال: لا تعبدون الله وقد خلقكم وما تعملون. لتعينت المصدرية قطعًا، ولم يحسن أن يكون بمعنى: الذي؛ إذ يكون المعنى: كيف لا تعبدونه وهو الذي أوجدكم وأوجد أعمالكم، فهو المنعم عليكم بنوعي الإيجاد والخلق. فهذا وِزان ما قرروه مِن كونها مصدرية. فأما سياق الآية فإنه في معرض إنكاره عليهم عبادةَ مَن لا يستحق العبادة، فلا بُدَّ أن يبين فيه معنًى ينافي كونه معبودًا، فبيَّن هذا المعنى بكونه مخلوقًا له، ومَن كان مخلوقًا مِن بعض مخلوقاته فإنه لا ينبغي أن يُعْبَد ولا تليق به العبادة، وتأمل مطابقة هذا المعنى لقوله: {والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: ٢٠] كيف أنكر عليهم عبادة آلهة مخلوقة له سبحانه وهي غير خالقة، فهذا يبين المراد من قوله: {واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ}، ونظيره قوله في سورة الأعراف [١٩٤]: {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أمْثالُكُمْ} أي: هم عباد مخلوقون كما أنتم كذلك فكيف تعبدون المخلوق. وتأمل طريقة القرآن لو أراد المعنى الذي ذكروه مِن حسن صفاته وانفراده بالخلق كقول صاحب يس: {وما لِيَ لا أعبد الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: ٢٢] فهنا لما كان المقصود إخبارهم بحسن عبادته واستحقاقه لها ذكر الموجب لذلك، وهي كونه خالقًا لعابده فاطرًا له، وهذا إنعام منه عليه؛ فكيف يترك عبادته؟! ولو كان هذا هو المراد من قوله: {واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ} كان يقتضي أن يقال: ألا يعبدون الله وهو خالقهم وخالق أعمالهم. فتأمله فإنه واضح».
ثم بيَّن كيف يستدل بالآية على خلق الله لأعمال العباد، فقال: «ووجه الاستدلال بها على هذا التقدير: أنّ الله سبحانه أخبر أنه خالقهم وخالق الأصنام التي عملوها، وهي إنما صارت أصنامًا بأعمالهم، فلا يقع عليها ذلك الاسم إلا بعد عملهم، فإذا كان سبحانه هو الخالقُ اقتضى صِحَّة هذا الإطلاق أن يكون خالقها بجملتها، أعني: مادتها وصورتها، فإذا كانت صورتها مخلوقة لله كما أنّ مادتها كذلك لزم أن يكون خالقًا لنفس عملهم الذي حصلت به الصورة؛ لأنه متولد عن نفس حركاتهم، فإذا كان الله خالقها كانت أعمالهم التي تولد عنها ما هو مخلوق لله مخلوقة له، وهذا أحسن استدلالًا وألطف من جعل» ما «مصدرية، ونظيره من الاستدلال سواء قوله: {وآيَةٌ لَهُمْ أنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ وخَلَقْنا لَهُمْ مِن مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ} [يس: ٤١ - ٤٢]، والأصح أن المثل المخلوق هنا هو السفن، وقد أخبر أنها مخلوقة، وهي إنما صارت سفنًا بأعمال العباد، ونظير هذا الاستدلال أيضًا قوله تعالى: {واللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالًا وجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبالِ أكْنانًا وجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: ٨١] والسرابيل التي يلبسونها وهي مصنوعة لهم، وقد أخبر بأنه سبحانه هو جاعلها، وإنما صارت سرابيل بعملهم، ونظيره: {واللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وجَعَلَ لَكُمْ مِن جُلُودِ الأنْعامِ بُيُوتًا} [النحل: ٨٠] والبيوت التي من جلود الأنعام هي الخيام، وإنما صارت بيوتًا بعملهم. فإن قلت: المراد من هذا كله المادة لا الصورة. قلت: المادة لا تستحق هذه الأسماء التي أطلق الخلق عليها، وإنما تستحق هذه الأسماء بعد عملها وقيام صورها بها، وقد أخبر أنها مخلوقة له في هذه الحال. والله أعلم. فالأولى أن تكون» ما «موصولة، أي: والله خلقكم وخلق آلهتكم التي عملتموها بأيديكم، فهي مخلوقة له، لا آلهة شركاء معه، فأخبر أنه خلق معمولهم، وقد حله عملهم وصنعهم، ولا يقال:» المراد مادته «فإن مادته غير معمولة لهم، وإنما يصير معمولًا بعد عملهم».
وبنحوه قال ابنُ تيمية (٥/ ٣٤٨ - ٣٥١)، وضعَّفَ القول الأول جدًّا، بل غلَّطه.

<<  <  ج: ص:  >  >>