وقد ذكر ابنُ جرير (٢٠/ ٥٢) هذه الأقوال، ثم رجّح مستندًا إلى اللغة، والعموم جوازَ جميعها، فقال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يُقال: إنّ الله أخبر أنه آتى داود -صلوات الله عليه- فصل الخطاب، والفصل: هو القطع، والخطاب: هو المخاطبة، ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل في حال احتكام أحدهما إلى صاحبه قطع المحتكم إليه الحكم بين المحتكم إليه وخصمه بصواب من الحكم، ومَن قطع مخاطبته أيضًا صاحبه إلزام المخاطب في الحكم ما يجب عليه إن كان مدعيًا فإقامة البينة على دعواه، وإن كان مدعًى عليه فتكليفه اليمين؛ إن طلب ذلك خصمه. ومن قطع الخطاب أيضًا الذي هو خطبه عند انقضاء قصة وابتداء في أخرى الفصل بينهما بأما بعد؛ فإذ كان ذلك كله محتملًا ظاهر الخبر، ولم تكن في هذه الآية دلالة على أي ذلك المراد، ولا ورد به خبرٌ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثابتٌ، فالصواب أن يعم الخبر كما عمه الله، فيقال: أوتي داود فصل الخطاب في القضاء، والمحاورة، والخطب». ووافقه ابنُ كثير (١٢/ ٨١) بقوله: «وقال مجاهد أيضًا: هو الفصل في الكلام، وفي الحكم. وهذا يشمل هذا كله، وهو المراد، واختاره ابن جرير». وذكر ابنُ عطية (٧/ ٣٣٢) هذه الأقوال، ثم قال: «والذي يعطيه لفظُ الآية: أنّ الله تعالى آتاه أنّه كان إذا خاطب في نازلة فَصَل المعنى وأوضحه وبيَّنه، لا يأخذه في ذلك حَصْرٌ ولا ضَعْف، وهذه صفةٌ قليلٌ مَن يدركها، فكان كلامه - عليه السلام - فصلًا، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن: {إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: ١٣]، ويزيد محمد - صلى الله عليه وسلم - على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة، وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير، وهذا هو الذي تخصص - عليه السلام - به في قوله: «وأعطيت جوامع الكلم». فإنها في الخلال التي لم يُؤتَها أحدٌ قبلَه».