ثم علَّق على القول الأخير بقوله: «ولا فرق بين الاستثناء مِن أجل الأمن، أو من أجل الدخول؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قد أخبر بهما، ووقعت الثقة بالأمرين، فالاستثناء مِن أيِّهما كان هو استثناءٌ من واجب». ثم نقل عن قوم أنّ: {إنْ} بمعنى: إذ، ثم وجَّهه بقوله: «فكأنه تعالى قال: إذ شاء اللهُ». غير أنه استدرك عليه قائلًا: «وهذا حسنٌ في معناه، لكن كون {إنْ} بمعنى: إذ؛ غير موجود في لسان العرب». ثم علَّق بقوله: «وللناس بعد في هذا الاستثناء أقوالٌ مخلّطة غير هذه لا طائل فيها اختصرتها». ووجَّه ابنُ تيمية (٦/ ٣٣) قول من قال: {إنْ} بمعنى: إذ. بقوله: «ومقصوده بهذا تحقيق الفعل بـ {إن} كما يتحقق مع: إذ، وإلا فـ: إذ ظرف توقيت، و {إن} حرف تعليق». ثم ذكر (٦/ ٣٣ - ٣٤) أن «طائفة من الناس فرُّوا من هذا المعنى -أي: معنى تحقيق المشيئة-، وجعلوا الاستثناء لأمر مشكوك فيه، فقال الزَّجّاج: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ} أي: أمركم الله به. وقيل: الاستثناء يعود إلى الأمن والخوف، أي: لتدخلنّه آمنين، فأما الدخول فلا شكّ فيه. وقيل: لتدخلنّ جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أنّ بعضهم يموت، فالاستثناء لأنهم لم يدخلوا جميعهم». ثم انتقد (٦/ ٣٤) هذه الأقوال -مستندًا إلى دلالة اللفظ، وإلى الدلالة العقلية- قائلًا: «كل هذه الأقوال وقع أصحابها فيما فرُّوا منه، مع خروجهم عن مدلول القرآن، فحرَّفوه تحريفًا لم ينتفعوا به، فإنّ قول مَن قال: أي: أمركم الله به، هو سبحانه قد علم هل يأمرهم أو لا يأمرهم، فعلّمه بأنه سيأمرهم بدخوله كعلمه بأن سيدخلوا، فعلَّقوا الاستثناء بما لم يدل عليه اللفظ، وعِلْمُ الله متعلق بالمُظْهَر والمضمَر جميعًا. وكذلك أمنهم وخوفهم، هو يعلم أنهم يدخلون آمنين أو خائفين، وقد أخبر أنهم يدخلون آمنين مع علْمه بأنهم يدخلون آمنين، فكلاهما لم يكن فيه شكّ عند الله، بل ولا عند رسوله. وقول مَن قال: جميعهم أو بعضهم. يُقال: المُعلّق بالمشيئة دخول مَن أريد باللفظ، فإن كان أراد الجميع فالجميع لا بُدَّ أن يدخلوه، وإن أريد الأكثر كان دخولهم هو المعلّق بالمشيئة، وما لم يرد لا يجوز أن يعلق بـ {إن}، وإنما علّق بـ {إن} ما سيكون؛ وكان هذا وعدًا مجزومًا به، ولهذا لما قال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحُدَيبية: ألم تكن تحدّثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: «بلى، قلت لك: إنك تأتيه هذا العام؟». قال: لا. قال: «فإنك آتيه، ومُطَوّف به»».