للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قال: «فعن معادن العرب تسألوني؟» قالوا: نعم. قال: «خِيارهم في الجاهلية خِيارهم في الإسلام إذا فَقِهوا» (١) [٦١٠٩]. (١٣/ ٥٩٧)


[٦١٠٩] قال ابنُ تيمية (٦/ ٦٤ - ٦٥) تعليقًا على هذا الحديث: "بيّن لهم أولًا: أنّ أكرم الخلق عند الله أتقاهم، وإن لم يكن ابن نبي ولا أبا نبي، فإبراهيم النبي - صلى الله عليه وسلم - أكرم على الله من يوسف، وإن كان أبوه آزر، وهذا أبوه يعقوب. وكذلك نوح أكرم على الله من إسرائيل، وإن كان هذا أولاده أنبياء، وهذا أولاده ليسوا بأنبياء. فلمّا ذكروا أنه ليس مقصودهم إلا الأنساب، قال لهم: فأكرم أهل الأنساب مَن انتسب إلى الأنبياء، وليس في ولد آدم مثل يوسف؛ فإنه نبي ابن نبي ابن نبي. فلما أشاروا إلى أنه ليس مقصودهم إلا ما يتعلق بهم، قال: «أفعن معادن العرب تسألوني؟». الناس معادن كمعادن الذهب والفِضّة، «خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» بيّن أن الأنساب كالمعادن، فإن الرجل يتولد منه كما يتولّد من المعدن الذهب والفِضّة. ولا ريب أن الأرض التي تُنبتُ الذّهب أفضل من الأرض التي تُنبت الفِضّة. فهكذا مَن عُرِف أنه يلد الأفاضل، كان أولاده أفضل مِمَّن عُرف أنه يلد المفضول. لكن هذا سبب ومظنة، وليس هو لازمًا؛ فربما تعطلت أرض الذّهب، وربما قلَّ نَبْتها، فحينئذ تكون أرض الفِضّة أحبَّ إلى الإنسان من أرضٍ مُعطّلة، والفِضّة الكثيرة أحب إليهم من ذهبٍ قليل لا يماثلها في القدر، فلهذا كانت أهل الأنساب الفاضلة يُظن بهم الخير، ويُكرمون لأجل ذلك، فإذا تحقّق من أحدهم خلاف ذلك، كانت الحقيقة مُقدّمة على المظنّة، وأما [ما] عند الله فلا يثبت على المظان ولا على الدلائل، إنما يثبت على ما يعمله هو من الأعمال الصالحة، فلا يحتاج إلى دليل، ولا يجتزئ بالمظنّة، فلهذا كان أكرم الخلق عنده أتقاهم. فإذا قُدِّر تماثل اثنين عنده في التقوى تماثلًا في الدرجة، وإن كان أبو أحدهما أو ابنه أفضل من أبي الآخر أو ابنه، لكن إن حصل له بسبب نسبه زيادة في التقوى كان أفضل لزيادة تقواه. ولهذا حصل لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قنتن لله ورسوله وعملن صالحًا، لا لمجرد المصاهرة، بل لكمال الطاعة، كما أنهن لو أتين بفاحشة مبيّنة لضوعف لهُنّ العذاب ضعفين؛ لقبح المعصية. فإنّ ذا الشرف إذا ألزم نفسه التقوى كان تقواه أكمل من تقوى غيره، كما أنّ الملِك إذا عدل كان عدله أعظم من عدل الرجل في أهله. ثم إنّ الرجل إذا قصد الخير قصدًا جازمًا، وعمل منه ما يقدر عليه، كان له أجر كامل، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إن بالمدينة رجالًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم». قالوا: وهم في المدينة؟ قال: «وهم بالمدينة، حبَسهم العُذر». ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: «مَن دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن اتّبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار مَن اتّبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا».

<<  <  ج: ص:  >  >>