ووجَّه ابنُ عطية (٨/ ٢١٠) القول الثاني بقوله: «كأنه تعالى قال: إنه لكتابٌ كريمٌ، ذُكِر كرمه وشرفه فِي كتابٍ مكنونٍ، فمعنى الآية -على هذا-: الاستشهاد بالكتب المنزّلة، وهذا كقوله - عز وجل -: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللَّهِ} [التوبة: ٣٦]». ونقل عن بعض المتأوِّلين أنّ المراد: «مصاحف المسلمين، وكانت يوم نَزَلَتْ الآية لم تكن». ثم وجَّهه بقوله: «فهي -على هذا- إخبار بغيب، وكذلك هو كتاب مصون إلى يوم القيامة، ويؤيد هذا لفظة المَسِّ؛ فإنها تشير إلى المصاحف، وهي مستعارة من مسِّ الملائكة». ورجَّح ابنُ القيم (٣/ ١١٧) -مستندًا إلى دلالة ظاهر الآية- أنّ «الكتاب المكنون»: هو الكتاب الذي بأيدي الملائكة، فقال: «والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: ١٣ - ١٦]، ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: {لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ}، فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسّونه، وهذا هو الصحيح في معنى الآية». ثم بيَّن أوجه ترجيح هذا القول، وانتقد قول من قال: إنّ المراد مصاحف المسلمين مستندًا إلى الدلالة العقلية، فقال: «أحدها: أن ّالآية سيقت تنزيهًا للقرآن أن تنزل به الشياطين، وأنّ محله لا يصل إليه فيمسّه إلا المطهّرون، فيستحيل على أخابث خلْق الله وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يمسّوه، كما قال تعالى: {وما تَنَزَلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وما يَنْبَغِي لَهُمْ وما يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: ٢١٠ - ٢١١]، فنفى الفعل وتَأَتِّيه منهم، وقدرتهم عليه، فما فعلوا ذلك ولا يليق بهم، ولا يقدرون عليه، فإنّ الفعل قد ينتفي عمّن يحسن منه، وقد يليق بمن لا يقدر عليه، فنفى عنهم الأمور الثلاثة، وكذلك قوله في سورة عبس [١٣ - ١٦]: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ}، فوصف محله بهذه الصفات بيانًا أنّ الشيطان لا يمكنه أن يتنزل به، وتقرير هذا المعنى أهمّ وأجمل وأنفع من بيان كون المصحف لا يمسّه إلا طاهر. الوجه الثاني: أنّ السورة مكية، والاعتناء في السور المكية إنما هو بأصول الدين، من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة، وأما تقرير الأحكام والشرائع فمظنّة السور المدنية. الثالث: أنّ القرآن لم يكن في مصحف عند نزول هذه الآية، ولا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما جُمع في المصحف في خلافة أبي بكر، وهذا وإن جاز أن يكون باعتبار ما يأتي فالظاهر أنه إخبار بالواقع حال الإخبار، يوضّحه الوجه الرابع: وهو قوله: {فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ} والمكنون: المصون المستور عن الأعين الذي لا تناله أيدي البشر، كما قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: ٤٩] وهكذا قال السلف، قال الكلبي: مكنون من الشياطين. وقال مقاتل: مستور. وقال مجاهد: لا يصيبه تراب ولا غبار. وقال أبو إسحاق: مصون في السماء. يوضّحه الوجه الخامس: أنّ وصفه بكونه مكنونًا نظير وصفه بكونه محفوظًا؛ فقوله: {إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ} كقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: ٢١ - ٢٢] يوضحّه الوجه السادس: أنّ هذا أبلغ في الردّ على المكذّبين وأبلغ في تعظيم القرآن مِن كون المصحف لا يمسّه مُحدث. الوجه السابع: قوله: {لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ} بالرفع، فهذا خبر لفظًا ومعنًى، ولو كان نهيًا لكان مفتوحًا، ومَن حمل الآية على النهي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي، والأصل في الخبر والنهي حمل كلٍّ منهما على حقيقته، وليس ههنا موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي. الوجه الثامن: أنه قال: {إلا المُطَهَّرُونَ} ولم يقل: إلا المتطهّرون، ولو أراد به منع المُحدث مِن مسّه لقال: إلا المتطهّرون، كما قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: ٢٢٢]، وفي الحديث: «اللهم، اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين». فالمتطهّر فاعل التطهير، والمطهّر الذي طهّره غيره، فالمتوضئ متطهّر، والملائكة مطهّرون. الوجه التاسع: أنه لو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن في الاخبار عن كونه مكنونًا كبير فائدة؛ إذ مجرد كون الكلام مكنونًا في كتاب لا يستلزم ثبوته، فكيف يمدح القرآن بكونه مكنونًا في كتاب، وهذا أمر مشترك، والآية إنما سيقت لبيان مدحه وتشريفه وما اختص به من الخصائص التي تدل على أنه منزلٌ من عند الله وأنه محفوظ مضمون لا يصل إليه شيطان بوجهٍ ما، ولا يمسّ محله إلا المطهّرون وهم السّفرة الكرام البررة. الوجه العاشر: ما رواه سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو الأحوص، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس بن مالك، في قوله: {لا يمسه إلا المطهرون}، قال: {المطهّرون} الملائكة. وهذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع، وقال الحاكم: تفسير الصحابة عندنا في حكم المرفوع، ومن لم يجعله مرفوعًا فلا ريب أنه عنده أصحّ من تفسير مَن بعد الصحابة، والصحابة أعلم الأمة بتفسير القرآن، ويجب الرجوع إلى تفسيرهم. وقال حرب في مسائله: سمعت إسحاق في قوله: {لا يمسه إلا المطهرون} قال: النسخة التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون قال الملائكة». وذكر ابنُ تيمية (٦/ ١٨٩) أن اللوح المحفوظ مراد من هذه الآية، فقال: «والصحيح اللوح المحفوظ الذي في السماء مراد من هذه الآية، وكذلك الملائكة مرادون مِن قوله: {المُطَهَّرُونَ} لوجوه: أحدهما: إنّ هذا تفسير جماهير السلف من الصحابة ومَن بعدهم حتى الفقهاء الذين قالوا: لا يمس القرآن إلا طاهر، من أئمة المذاهب صرّحوا بذلك، وشبهوا هذه الآية بقوله: {كَلّا إنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: ١١ - ١٦]. وثانيها: أنه أخبر أن القرآن جميعه في كتاب، وحين نَزَلَتْ هذه الآية لم يكن نزل إلا بعض المكي منه، ولم يجمع جميعه في المصحف إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وثالثها: أنه قال: {فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ} والمكنون: المصون المحرّر الذي لا تناله أيدي المضلّين، فهذه صفة اللوح المحفوظ. ورابعها: أنّ قوله: {لا يَمَسُّهُ إلّا المُطَهَّرُونَ} صفة للكتاب، ولو كان معناها الأمر لم يصح الوصف بها، وإنما يوصف بالجملة الخبرية. وخامسها: أنه لو كان معنى الكلام الأمر لقيل: فلا يمسه؛ لتوسط الأمر بما قبله. وسادسها: أنه قال: {المُطَهَّرُونَ}، وهذا يقتضي أن يكون تطهيرهم من غيرهم، ولو أريد طهارة بني آدم فقط لقيل: المتطهّرون، كما قال تعالى: {فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: ١٠٨]، وقال تعالى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: ٢٢٢]. وسابعها: أنّ هذا مسوق لبيان شرف القرآن، وعلوه، وحفظه».