يعلم بهذا الزّعم لأُنزل عليه فينا. ثم قام المنافق، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فوجده يحدِّث أصحابه:«أنّ رجلًا من المنافقين شَمتَ بي بأن ضلّتْ ناقتي، قال: كيف يزعم محمد أنه يعلم الغيب؟! أفلا يخبره الذي يأتيه بالغيب بمكان ناقته! لعَمري، لقد كذب، ما أزعم أني أعلم الغيب، ولا أعلمه، ولكن الله تعالى أخبَرني بقوله، وبمكان ناقتي، وهي في الشِّعب، وقد تعلّق زمامها بشجرة». فخرجوا من عنده يَسعَون قِبل الشِّعب، فإذا هي كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاؤوا بها، والمنافق ينظر، فصدق مكانه، ثم رجع إلى أصحابه، فقال: أُذَكِّركم الله، هل قام أحد منكم من مجلسه؟ أو ذكر حديثي هذا إلى أحد؟. قالوا: لا. قال: أشهد أنّ محمدًا رسول الله، واللهِ، لكأني لم أُسلم إلا يومى هذا. قالوا: وما ذاك؟ قال: وجدتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّث الناس بحديثي الذي ذكرتُ لكم، وأنا أشهد أنّ الله أطلَعه عليه، وأنه لصادق. فسار حتى دنا من المدينة، فتحاور رجلان؛ أحدهما عامريّ، والآخر جُهَنيّ، فأعان عبد الله بن أُبيّ المنافق الجُهَنيّ، وأعان جُعال بن عبد الله بن سعيد العامريّ، وكان جُعال فقيرًا، فقال عبد الله لجعال: وإنك لهناك. فقال: وما يمنعني أنْ أفعل ذلك! فاشتدّ لسان جُعال على عبد الله، فقال عبد الله: مثلي ومثلك كما قال الأول: سمِّن كلبك يَأكلك، والذي يَحلِف به عبد الله، لأَذرَنّك ولهمك غير هذا. قال جُعال: ليس ذلك بيدك، وإنما الرّزق بيد الله تعالى. فرجع عبد الله غضبان، فقال لأصحابه: والله، لو كنتم تَمنعون جُعالًا وأصحابَ جُعال الطعامَ الذي من أجله رَكبوا رِقابكم لأوشكوا أن يَذَروا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ويَلحَقوا بعشائرهم ومواليهم، لا تُنفِقوا عليهم حتى يَنفَضُّوا -يعني: حتى يَتفرّقوا- من حول محمد - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: لو أنّ جُعالًا أتى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فأَخبَره لصدّقه، وزعم أني ظالم، ولعَمري، إني ظالم إذ جِئنا بمحمد من مكة وقد طرده قومه، فواسيناه بأنفسنا، وجعلناه على رِقابنا، أما -والله- لئن رَجَعنا إلى المدينة ليُخرِجنّ الأَعزّ منها الأَذلّ، ولنَجعلنّ علينا رجلًا مِنّا. يعني: نفسه، يعني بالأَعزّ: نفسه وأصحابه، ويعني بالأَذلّ: النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقال زيد بن أرْقَم الأنصاريّ -وهو غلام شاب-: أنتَ -واللهِ- الذليل القصير المُبغَض في قومك، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - في عِزٍّ من الرحمن، ومودة من المسلمين، واللهِ، لا أُحبّك بعد هذا الكلام أبدًا. فقال عبد الله: إنما كنتُ ألعب معك. فقام زيد، فأَخبَر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فشقّ عليه قول عبد الله بن أُبيّ، وفشا في الناس أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - غَضِب على عبد الله لخبر زيد،