ووجَّه ابنُ عطية (٨/ ٤٢٦) القول السادس بقوله: «فهذا هو من الجَدّ الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا ينفع ذا الجَد منك الجَد»». وعلَّق على القول الثاني والثالث والرابع بقوله: «وهذا كلّه متَّجه؛ لأنّ الجَدَّ هو حظّ المجدود من الخيرات والأوصاف الجميلة، وجَدُّ الله تعالى هو الحظّ الأكمل من السلطان القاهر والصفات العلية والعظمة، ومن هذا قول اليهودي حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة: يا بني قيلة، هذا جَدُّكم الذي تنتظرون. أي: حظّكم من الخيرات وبختكم». ورجَّح ابنُ جرير (٢٣/ ٣١٥) -مستندًا إلى لغة العرب، ودلالة العقل- القول الأول والثاني، وانتقد القول الخامس، فقال: «وأَوْلى الأقوال في ذلك عندنا بالصَّواب قولُ مَن قال: عُنِيَ بذلك: تعالتْ عظمةُ ربِّنا وقُدْرَتُه وسُلْطانُه. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن للجَدِّ في كلام العرب معنيين: أحدهما: الجَدُّ الذي هو أبو الأب، أو أبو الأُمّ. وذلك غير جائزٍ أنْ يوصف به هؤلاء النّفر الذين وصفهم الله بهذه الصفة، وذلك أنهم قد قالوا: {فَآمَنّا بِهِ ولَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أحدًا}، ومَن وصف الله بأن له والدًا أو جدًّا -وهو أبو الأب أو أبو الأُمّ- فلا شكّ أنه من المشركين. والمعنى الآخر: الجَدُّ الذي هو بمعنى الحظ؛ يقال: فلانٌ ذو جَدٍّ في هذا الأمْر: إذا كان له حظٌّ فيه، وهو الذي يقال له بالفارسية: البَخْت، وهذا المعنى الذي قصده هؤلاء النّفر من الجنّ بقيلهم: {وأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا} إن شاء الله. وإنما عَنَوا أنّ حُظْوَته مِن المُلك والسلطان والقدرة والعظمة عالية، فلا تكون له صاحبة ولا ولد؛ لأنّ الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطرُّه الشهوة الباعثة إلى اتخاذها له، وأنّ الولد إنما يكون عن شهوة أزعَجَتْه إلى البِضاع الذي يَحدث منه الولد، فقال النّفر من الجنّ: عَلا مُلك ربِّنا وسلطانه وقدرته وعظمته أنْ يكون ضعيفًا ضَعْفَ خَلْقه الذين تضْطَرُّهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو وِقاع شيءٍ يكون منه ولد. وقد بيَّن عن صحة ما قلنا في ذلك إخبار الله عنهم أنهم قالوا: {ما اتَّخَذَ صاحِبَةً ولا ولَدًا}، فأَخبَر -جلَّ ثناؤه- أنهم إنما نزّهوا الله عن اتخاذ الصاحبة والولد بقوله: {وأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ما اتَّخَذَ صاحِبَةً ولا ولَدًا}».