وساق ابنُ القيم (٣/ ٢٣٢) القولين، ثم علّق بقوله: «فعلى الأول تكون مِن رقى يرقِي؛ كرمى يرمِي، وعلى الثاني مِن رقِي يرقى؛ كشقِي يشقى. ومصدره: الرقاء، ومصدر الأول: الرقية». ثم رجَّح (٣/ ٢٣٣ - ٢٣٤ بتصرف) -مستندًا إلى الدلالة العقلية، والواقع، واللغة- القول الأول الذي قاله ابن عباس، وعكرمة، والضَّحّاك، وقتادة، وابن زيد، وقتادة، وأبو قِلابة، وانتقد الثاني، فقال: «والقول الأول أظهر لوجوه: أحدها: أنه ليس كلّ ميت يقول حاضروه: مَن يَرقى بروحه، وهذا إنما يقوله مَن يُؤمن برقي الملائكة بروح الميت، وأنهم ملائكة رحمة وملائكة عذاب، بخلاف التماس الرّقية وهي الدعاء فإنه قلّ ما يخلو منه المُحتضر. الثاني: أنّ الروح إنما يرقى بها المَلَك بعد مُفارقتها، وحينئذ يقال: مَن يرقى بها؟ وأما قبل المفارقة فطَلب الرّقية للمريض من الحاضرين أنسب من طلب علم مَن يَرقي بها إلى الله. الثالث: أنّ فاعل الرّقية يمكن العلم به، فيَحسن السؤال عنه، ويفيد السامع، وأمّا الراقي إلى الله فلا يمكن العلم بتعيينه حتى يُسأل عنه، و {من} إنما يُسأل بها عن تعيين ما يمكن السائل أن يصل إلى العلم بتعيينه. الرابع: أنّ مثل هذا السؤال إنما يُراد به تحضيضٌ وإثارة اهتمام إلى فعلٍ يقع بعد مِن نحو قوله: {مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: ٢٤٥]، أو يُراد به إنكار فعل ما يذكر بعدها كقوله: {مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإذْنِه} [البقرة: ٢٥٥]، وفِعْل الراقي إلى الله لا يَحسن فيه واحد من الأمرين هنا، بخلاف فاعل الرّقية فإنه يَحسن فيه الأول. الخامس: أنّ هذا خرج على عادة العرب وغيرهم في طلَب الرّقية لمن وصل إلى مثل تلك الحال، فحكى الله سبحانه ما جَرتْ عادتهم بقوله، وحذف فاعل القول؛ لأنه ليس الغرض مُتعلقًا بالقائل بل بالقول، ولم تَجرِ عادة المُخاطبين بأن يقولوا: مَن يَرقى بروحه. فكان حمْل الكلام على ما أُلف وجَرت العادة بقوله أولى؛ إذ هو تذكير لهم بما يُشاهدونه ويَسمعونه. السادس: أنه لو أريد هذا المعنى لكان وجه الكلام أن يُقال: مَن هو الرّاقي؟ ومن الرّاقي؟ ولا وجه للكلام غير ذلك، كما يقال: مَن هو القائل منكما كذا وكذا؟ وفي الحديث: «من القائل كلمة كذا؟». السابع: إنّ كلمة {مَن} إنما يُسأل بها عن التعيين، كما يقول: مَن الذي فعل كذا، ومَن ذا الذي قاله، فيعلم أنّ فاعلًا وقائلًا فعل وقال، ولا يعلم تعيينه فيسأل عن تعيينه بمن تارة وبأي تارة، وهم لم يسألوا عن تعيين الملَك الراقي بالروح إلى الله. فإن قيل: بل علموا أنّ مَلك الرحمة والعذاب صاعد بروحه، ولم يَعلموا تعيينه، فيسأل عن تعيين أحدهما. قيل: هم يعلمون أنّ تعيينه غير ممكن، فكيف يسألون عن تعيين ما لا سبيل للسامع إلى تعيينه ولا إلى العلم به؟! الثامن: أنّ الآية إنما سيقتْ لبيان يأسه من نفسه ويأس الحاضرين معه، وتحقق أسباب الموت، فالحاضرون لَمّا علموا أنه لم يبقَ لأسباب الحياة المعتادة تأثير في بقائه طلبوا أسبابًا خارجة عن المقدور تُستجلب بالرّقى والدعوات، فقالوا: من راق؟ أي: مَن يَرقي هذا العليل من أسباب الهلاك. والرّقية عندهم كانت مستعملة حيث لا يُجدي الدواء. التاسع: أنّ مثل هذا إنما يُراد به النفي والاستبعاد، وهو أحد التقديرين في الآية، أي: لا أحد يَرقي من هذه العلّة بعد ما وصَل صاحبها إلى هذه الحال. فهو استبعاد لنفي الرّقية، لا طلب لوجود الراقي، كقوله: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} [يس: ٧٨] أي: لا أحد يحييها، وقد صارت إلى هذه الحال. فإنْ أريد بها هذا المعنى استحال أن يكون من الرّقي، وإنْ أريد بها الطلب استحال أيضًا أن يكون منه، وقد بَيّنا أنها في مثل هذا إنما تُستعمل للطلب أو للإنكار. وحينئذ فتقول في الوجه العاشر: إنها إمّا أن يُراد بها الطلب أو الاستبعاد، والطلب إمّا أن يُراد به طلب الفعل أو طلب التعيين، ولا سبيل إلى حمْل واحد من هذه المعاني على الرّقي؛ لما بَيّناه». وبنحوه قال ابنُ تيمية (٦/ ٤٢٩).