للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٨١٧٦١ - قال مقاتل بن سليمان: ثم أقسم الرّبُّ، فقال: {فَلا أُقْسِمُ} يعني: أقسم {بِالخُنَّسِ} وهي خمس مِن الكواكب: بَهْرام، والزُّهرة، وزُحَل، والبرجهس -يعني: المُشتري-، وعُطارِد، والخُنّس التي خَنستْ بالنهار فلا تُرى، وظهرتْ بالليل فتُرى {الجَوارِ الكُنَّسِ}، الجوار: لأنهن يجرين في السماء، الكُنّس يعني: تتوارى كما تتوارى الظباء في كناسهن (١). (ز)

٨١٧٦٢ - عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم -من طريق ابن وهب- قال: النجوم الخُنّس؛ إنها تَخنس تتأخّر عن مطالعها، هي تتأخّر كلّ عام، لها في كلّ عام تأخر عن تعجيل ذلك الطلوع تخنس عنه. والكُنّس: تَكنس بالنهار فلا تُرى، والجواري: تجري بعد، فهذا الخُنّس الجوار الكُنّس (٢) [٧٠٦٠]. (ز)


[٧٠٦٠] اختُلف في قوله: {الخنس الجواري الكنس} على ثلاثة أقوال: الأول: أنها هي النجوم. الثاني: أنها بقر الوحش التي تَكنس في كناسها. الثالث: أنها الظباء.
وعلّق ابنُ القيم (٣/ ٢٥٧ - ٢٥٩ بتصرف) على القول الأول، فقال: «ومعنى تَخنس على هذا القول: تتأخّر عن البصر، وتتوارى عنه بإخفاء النهار لها. وفيه قول آخر: وهو أنّ خُنوسها رجوعها، وهي حركتها الشرقية، فإنّ لها حركتين، حركة بفعلها، وحركة بنفسها، فخُنوسها حركتها بنفسها راجعة، وعلى هذا فهو قسم بنوع من الكواكب، وهي السيارة. وهذا قول الفراء. وفيه قول ثالث: وهو أنّ خُنوسها وكُنوسها اختفاؤها وقت مغيبها، فتغيب في مواضعها التي تغيب فيها. وهذا قول الزجاج».
وقد رجّح ابنُ جرير (٢٤/ ١٥٨ بتصرف) كلا القولين مستندًا إلى اللغة، والعموم، فقال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يُقال: إنّ الله -تعالى ذِكْره- أقسم بأشياء تَخنس أحيانًا، أي: تغيب، وتجري أحيانًا وتَكنس أخرى، وكُنوسها: أن تأوي في مكانسها، والمكانس عند العرب: هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء ... وأما الدلالة على أنّ الكناس قد يكون للظباء فقول أوس بن حجر:
ألم ترَ أنّ الله أنزلَ مُزْنَة وعُفْرُ الظِّباء في الكِناس تَقَمَّع
فالكناس في كلام العرب ما وصفت، وغير منكر أن يُستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء، فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ المراد بذلك النجوم دون البقر، ولا البقر دون الظباء؛ فالصواب أن يعمّ بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحيانًا والجري أخرى، والكنوس بآنات على ما وصف -جلّ ثناؤه- من صفتها".
ورجّح ابنُ القيم -مستندًا إلى الدلالة العقلية- القول الأول، فقال: «أقسم سبحانه بالنجوم في أحوالها الثلاثة؛ من طلوعها، وجريانها، وغروبها. هذا قول علي وابن عباس وعامة المفسرين وهو الصواب؛ إذ لما كان للنجوم حال ظهور وحال اختفاء وحال جريان وحال غروب أقسم سبحانه بها في أحوالها كلّها، ونبّه بخنوسها على حال ظهورها؛ لأنّ الخُنوس هو الاختفاء بعد الظهور، ولا يُقال لِما لا يزال مختفيًا أنه قد خنس، فذكر سبحانه جريانها وغروبها صريحًا وخُنوسها وظهورها، واكتفى من ذكر طلوعها بجريانها الذي مبدؤه الطلوع، فالطلوع أول جريانها. فتضمّن القسم طلوعها، وغروبها، وجريانها، واختفاءها، وذلك من آياته ودلائل ربوبيته». ثم انتقد -مستندًا إلى السياق، وظاهر القرآن، والدلالة العقلية، واللغة- القولين الآخرين من وجوه: الأول: أنّ هذه الأحوال في الكواكب السيارة أعظم آية وعبرة. الثاني: اشتراك أهل الأرض في معرفته بالمشاهدة والعيان. الثالث: أنّ البقر والظباء ليست لها حالة تختفي فيها عن العيان مطلقًا، بل لا تزال ظاهرة في الفلوات. الرابع: إنّ الذين فسّروا الآية بذلك قالوا ليس خنوسها من الاختفاء. قال الواحدي: هو من الخُنّس في الأنف، وهو تأخر الأرنبة وقِصر القصبة، والبقر والظباء أنوفهنّ خُنّس، ومعلوم أنّ هذا أمر خفيٌّ يحتاج إلى تأمل، وأكثر الناس لا يعرفونه، وآيات الرّبّ التي يُقسم بها لا تكون إلا ظاهرة جليّة يشترك في معرفتها الخلائق. الخامس: أنّ كُنوسها في أكنّتها ليس بأعظم من دخول الطير وسائر الحيوانات في بيته الذي يأوي فيه ولا أظهر منه حتى يتعين للقسم. السادس: أنه لو كان جمعًا للظبي لقال الخُنس بالتسكين؛ لأنه جمع أخنس، فهو كأحمر وحمر، ولو أريد به جمع بقرة خنساء لكان على وزن فعلاء أيضًا كحمراء وحمر، فلما جاء جمعه على فُعّل -بالتشديد- استحال أن يكون جمعًا لواحد من الظباء والبقر، وتعيّن أن يكون جمعًا لخانس؛ كشاهد وشهد، وصائم وصوم، وقائم وقوم، ونظائرها. السابع: أنّ اقتران القسم بالليل والصبح يدل على أنها النجوم، وإلا فليس باللائق اقتران البقر والغزلان والليل والصبح في قسم واحد. الثامن: أنّ الارتباط الذي بين النجوم التي هي هداية للسالكين، ورجوم للشياطين، وبين المُقسم عليه وهو القرآن الذي هو هدى للعالمين وزينة للقلوب وداحض لشبهات الشيطان أعظم من الارتباط الذي بين البقر والظباء والقرآن".

<<  <  ج: ص:  >  >>