ورَجَّح ابنُ جرير (٣/ ٣٤٧ - ٣٤٨ بتصرف) القولَ الأولَ الذي قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة، وعروة، وإبراهيم، وابن عباس من طريق علي. وانتَقَد الثانيَ مستندًا إلى اللغة، وظاهر الآية، وسياقها، فقال: «فلذلك قيل: {أحصرتم} لَمّا أُسْقِط ذكرُ الخوف، والمرض. يُقال منه: أحصرني خوفي من فلان عن لقائك، ومرضي عن فلان، يراد به: جعلني أحبس نفسي عن ذلك. فأمّا إذا كان الحابس الرجل والإنسان؛ قيل: حصرني فلان عن لقائك، بمعنى: حبسني عنه. فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأول من قوله: {فإن أحصرتم}: فإن حبسكم حابسٌ من العدو عن الوصول إلى البيت؛ لوجب أن يكون: فإن حُصِرْتُم. ومِمّا يُبَيِّنُ صِحَّة ما قلناه قوله: {فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}، والأمنُ إنما يكون بزوال الخوف. وإذا كان ذلك كذلك فمعلوم أنّ الإحصار الذي عنى الله في هذه الآية هو الخوف الذي يكون بزواله الأمن. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن حبسُ الحابس الذي ليس مع حبسه خوفٌ على النفس مِن حبسه داخِلًا في حكم الآية بظاهرها المَتْلُوِّ، وإن كان قد يلحق حكمه عندنا بحكمه من وجْهِ القياس؛ من أجل أنّ حَبْس مَن لا خوف على النفس مِن حبسه كالسلطان غير المخوفة عقوبته، والوالد، وزوج المرأة، إن كان منهم أو من بعضهم حُبِس ومُنِع عن الشخوص لعمل الحج، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرام؛ غير داخل في ظاهر قوله: {فإن أحصرتم}؛ لِما وصفنا من أنّ معناه: فإن أحصركم خوفُ عدوٍّ، بدلالة قوله: {فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}، وقد بَيَّن الخبرُ الذي ذكرنا آنفًا عن ابن عباس أنّه قال: الحصر: حصر العدو. وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآية لما وصفنا، وكان ذلك منعًا من الوصول إلى البيت؛ فكُلُّ مانعٍ عَرَض للمحرم فصَدَّه عن الوصول إلى البيت، فهو له نظير في الحكم». ورجَّح ابنُ عطية (٣/ ٤٧٢) مستندًا إلى اللغة، وأحوال النزول: «أنّ» حَصَر «إنما هي فيما أحاط وجاور، فقد يحصر العدو والماء ونحوه، ولا يحصر المرض، و» أحْصَرَ «معناه: جعل الشيء ذا حصر، كأقبر، وأحمى، وغير ذلك، فالمرض والماء والعدو وغير ذلك قد يكون مُحْصرًا لا حاصِرًا، ألا ترى أنّ العدو كان محصرًا في عام الحديبية، وفي ذلك نزلت هذه الآية عند جمهور أهل التأويل».