للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عباده، ولكن إحجام خائف، أن لا يبلغ في اجتهاده، ما كلف اللَّه العلماء من عباده فيه، فكذلك معنى إحجام من أحجم عن القيل في تأويل القرآن، وتفسيره من علماء السلف، إنما كان إحجامه عنه حذار أن لا يبلغ أداء ما كلف من إصابة صواب القول فيه، لا على أن تأويل ذلك محجوب عن علماء الأمة غير موجود بين أظهرهم" (١).

مما تقدم يتبين أن ليس ثَمَّ مدرسة التزمت منهجًا واحدًا لا يحيد عنه طلابها في طبقاتهم المختلفة، مما ينقض فكرة المدارس التفسيرية. ويعضد ذلك أنك لا تجد ذلك التقسيم وتلك المناهج ونحو هذه الفكرة عند البحث في كتب طبقات المفسرين أو كلام من تحدث عن مفسري السلف، فهذا ابن كثير أورد في مقدمة تفسيره آثارًا عن السلف الذين تورعوا عن تفسير القرآن، وقبله ابن جرير، ولم يذكر أحد منهم أنه ناتج عن اختلاف المدارس، وتغاير المشارب، وتباين المناهج، وهذا بخلاف ما يذكر عن المذاهب (أو المدارس) الفقهية، أو النحوية، أو في أصول الفقه، ففيها نجد المناهج المتباينة واضحة، ولكل منها أنصار وتلاميذ، أصّلوا أصولها، وحدّوا حدودها، وانتصروا لآرائها، ونقضوا آراء مخالفيها، وصنفوا المصنفات في مسائلها، والطبقات في رجالها، إلى يومنا هذا.

والخلاصة: أن دعوى وجود مدارس تفسيرية عند السلف، وأن لكل مدرسة منهج خاص، دعوى ينقصها الدليل، وينقضها الواقع، فكل هؤلاء الصحابة والتابعون يقتبسون من مشكاة واحدة؛ مشكاة النبوة، ويسيرون على منهج واحد، ويصدرون عن مورد واحد، وإن اختلفوا في كيفية ورودهم وصدورهم، فكل صحابي أو تابعي اختار ما يراه صحيحًا أو أنه أولى له وأحوط، ومن هنا نجد ابن عطية عند ما ذكر هذه المسألة قال: "وكان جلة من السلف كسعيد بن المسيب، وعامر الشعبي، وغيرهما، يعظمون تفسير القرآن، ويتوقفون عنه تورعًا واحتياطًا لأنفسهم، مع إدراكهم، وتقدمهم" (٢)، ولم يقل أن ذلك بسبب انتسابهم لمدرسة المدينة أو الكوفة، أو أنهم تقلدوا مشايخهم، بل حالهم هنا في باب التفسير كحالهم ومسالكهم في عموم مسائل الفتيا والقضاء، من باب التورع والاحتياط للنفس، ولو اقتصرنا على هذا دون إيراد نحو تلك التقسيمات والمدارس وتحميلها ما لا تحتمل لما كانت تلك الإيرادات والمفارقات والمآخذ، ولما احتجنا لتعليلها والجواب عنها، واللَّه أعلى وأعلم.


(١) تفسير ابن جرير ١/ ٨٣ - ٨٤.
(٢) تفسير ابن عطية ١/ ٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>