ثُمَّ وجَّه (٢/ ٥٠ - ٥١) أدلة ابن جرير على ما يراه، فبيّن أنّ قول ابن عباس: «هي أرجى آية» فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى، وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله: {أوَلَمْ تُؤْمِن}. أي: أنّ الإيمان كافٍ لا يحتاج بعده إلى تنقيح وبحث. وأمّا قول عطاء بن أبي رباح: «دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس» فمعناه: مِن حُبِّ المعاينة، وذلك أنّ النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أُخبرت به، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ليس الخبر كالمعاينة». وأمّا قول النبي عليه الصلاة والسلام: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فمعناه: أنّه لو كان شكٌّ لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك، فإبراهيم - عليه السلام - أحرى أن لا يشك، فالحديث مبنيٌّ على نفي الشك عن إبراهيم. والذي رُوِي فيه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ذلك محض الإيمان» إنّما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت، وأما الشكُّ فهو تَوَقُّفٌ بين أمرين لا مَزِيَّة لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفيُّ عن الخليل - عليه السلام -". ورَجَّح (٢/ ٥١ - ٥٢) مستندًا إلى ألفاظ الآية، والدلالات العقلية أنّ سؤال إبراهيم - عليه السلام - لم يكن سببه الشكَّ في قدرة الله تعالى، وإنّما طلب المعاينة لما جُبِلَت عليه النفوسُ البشرية من رؤية ما أُخْبِرت، فليس الخبرُ كالمعاينة، فاستدل -إضافة إلى ما سبق- بأنّ الشك يبعد على مَن ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة والخُلَّة؟! والأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر التي فيها رَذِيلَةٌ إجماعًا، واستدل أيضًا بأن سؤال إبراهيم - عليه السلام - وسائرَ ألفاظ الآية لم تُعْطِ شكًّا؛ وذلك أنّ الاستفهام بـ «كيف» إنما هو عن حال شيءٍ موجودٍ مُتَقَرِّر الوجود عند السائل والمسؤول، فـ {كَيْفَ} في هذه الآية إنّما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء مُتَقَرِّر، ولكن لما وُجِد أن بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبَّر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصلح، فيلزم من ذلك أنّ الشيء في نفسه لا يصح. مثال ذلك: أن يقول مُدَّعٍ: أنا أرفعُ هذا الجبلَ. فيقول له المكذب: أرني كيف ترفعه؟ فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول: أفرِضُ أنك ترفعه، أرني كيف؟ فلما كان في عبارة الخليل - عليه السلام - هذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك، وحمله على أن يبين الحقيقة، فقال له: {أوَلَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى}، فكمل الأمر، وتخلص =