وزاد ابنُ عطية (٣/ ٥٥) عن قومٍ أنّ: «معنى الكلام: لا يُحِبُّ اللهُ أن يجهر أحدٌ بالسوء من القول، ثم استثنى استثناءً منقطعًا، تقديره: لكن مَن ظَلَم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك». ووجَّه ابن جرير (٧/ ٦٢٧) قولَ الحسن بقوله: «و {مَن} على قول الحسن هذا نصب على أنّه مستثنًى من معنى الكلام، لا من الاسم كما ذكرنا قبلُ في تأويل ابن عباسٍ إذا وجَّه {مَن} إلى النصب، وكقول القائل: كان من الأمر كذا وكذا، اللهم إلا أن فلانًا جزاه الله خيرًا فعل كذا وكذا». ووجَّه قول ابن عباس بقوله: «فـ {مَن} على قول ابن عباس هذا في موضع رفع؛ لأنه وجَّهه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء، واستُثْنِي المظلومُ منه، فكان معنى الكلام على قوله: لا يحب الله أن يَجْهَر بالسوء من القول، إلا المظلوم فلا حرج عليه في الجهر به. وهذا مذهبٌ يراه أهل العربية خطأً في العربية، وذلك أن {مَن} لا يجوز أن يكون رفعًا عندهم بالجهر؛ لأنها في صلة أنْ، ولم يَنَلْه الجَحْد، فلا يجوز العطف عليه؛ من خطأٍ عندهم أن يُقال: لا يعجبني أن يقوم إلا زيد. وقد يَحْتَمل أن تكون {مَن} نصبًا على تأويل قول ابن عباس، ويكون قوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ} كلامًا تامًّا، ثم قيل: {إلا مَن ظُلِمَ} فلا حرج عليه، فيكون {مَن} استثناءً من الفعل، وإن لم يكن قبل الاستثناء شيءٌ ظاهرٌ يُستَثنى منه، كما قال -جلَّ ثناؤه-: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إلا مِن تَوَلّى وكَفَرَ} [الغاشية: ٢٢، ٢٣]، وكقوله: إني لأكره الخصومة والمراء، اللهم إلا رجلًا يريد اللهَ بذلك. ولم يُذْكَر قبله شيءٌ من الأسماء». ووجَّه (٧/ ٦٣٠) قول السدي ومجاهد بقوله: «فـ {مَن} على هذه الأقوال التي ذكرناها سوى قول ابن عباس في موضع نصبٍ على انقطاعه من الأول، والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد» إلا «في الاستثناء المنقطع. فمعنى الكلام على هذه الأقوال سوى قول ابن عباس: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، ولكن من ظُلِم فلا حرج عليه أن يُخبِر بما نِيلَ منه أو ينتصر ممن ظلمه». وعلَّق ابنُ عطية (٣/ ٥٥) على الأقوال الأربعة الأولى بقوله: «فهذه الأقوال على أربع مراتب: قول الحسن دعاء في المدافعة، وتلك أقلُّ منازل السوء من القول، وقول ابن عباس الدعاء على الظالم بإطلاقٍ في نوع الدعاء، وقول مجاهد ذكر الظلامة والظلم، وقول السدي الانتصار بما يوازي الظلامة». ووجَّه ابنُ جرير (٧/ ٦٣١) قول ابن زيد بقوله: «فـ {مَن} على هذا التأويل نصبٌ؛ لتعلُّقه بالجهر. وتأويل الكلام على قول قائل هذا القول: لا يحب الله أن يَجْهَر أحدٌ لأحدٍ من المنافقين بالسوء من القول إلا لمن ظَلَم منهم نَفْسَه فأقام على نفاقه، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول». وقد اختار ابنُ جرير (٧/ ٦٣١، ٦٣٢) القراءة بضم الظاء لإجماع الحجة من القرأةِ وأهل التأويل على صحّتها، وشذوذ قراءةِ من قرأ ذلك بالفتح، ورَجَّح مستندًا إلى القراءات أنّ المعنى: لا يُحِبُّ اللهُ أيها الناسُ أن يَجْهَرَ أحدٌ لأحدٍ بالسوء من القول {إلا مَن ظُلِمَ} بمعنى: إلا مَن ظُلِم فلا حرج عليه أن يُخْبِر بما أُسِيء إليه، ثم أردف قائلًا: «وإذا كان ذلك معناه دخل فيه إخبار مَن لم يُقْرَ أو أُسِيء قِراه، أو نِيلَ بظُلمٍ في نفسه أو ماله، غيرَه من سائر الناس، وكذلك دعاؤه على مَن ناله بظلم أن يَنصُره الله عليه؛ لأن في دعائه عليه إعلامًا منه لِمَن سمع دعاءه عليه بالسوء له. فإذا كان ذلك كذلك فـ {من} في موضع نصبٍ؛ لأنه منقطعٌ عما قبله، وأنه لا أسماء قبله يُستَثنى منها، فهو نظير قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إلا مِن تَوَلّى وكَفَرَ}». وانتقد (٧/ ٦٣٣ - ٦٣٤) قولَ ابن زيد مستندًا إلى السياق، فقال: «وفي قوله -جل ثناؤه-: {إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أوْ تُخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (١٤٩)} الدلالة الواضحة على أن تأويل قوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلا مَن ظُلِمَ} يُخالِف التأويل الذي تأوَّله زيد بن أسلم ... وذلك أنّه -جلَّ ثناؤه- قال عَقيب ذلك: {إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أوْ تُخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ}، ومعقولٌ أنّ الله -جلَّ ثناؤه- لم يأمر المؤمنين بالعفو للمنافقين عن نفاقهم، ولا نهاهم أن يُسَمُّوا مَن كان منهم مُعلِن النفاق منافقًا، بل العفو عن ذلك مِمّا لا وجْه له معقولٌ؛ لأن العفوَ المفهومَ إنما هو صَفْحُ المرء عما له قِبَلَ غيره من حق، وتسمية المنافق باسمه ليس بحقٍّ لأحدٍ قِبَلَه، فيؤمَرُ بعفْوه عنه، وإنما هو اسمٌ له، وغير مفهومٍ الأمر بالعفو عن تسمية الشيء بما هو اسمه».