ورجَّحَ ابنُ جرير (٨/ ٤٩٥) القول الأول، وهو قول عليّ، وقتادة، ومَن تبعهما بدلالة السياق، فقال: «إنما قلنا ذلك أولى بالصواب لقوله: {ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً}. ولو كان عنى بقوله: {لكل جعلنا منكم} أمة محمد -وهم أمّة واحدةٌ-لم يكن لقوله: {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} -وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة- معنىً مفهوم. ولكن معنى ذلك على ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أنّه ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة، وتقدَّم إليهم فيها بالعمل بما فيها، ثم ذكر أنه قفّى بعيسى ابن مريم على آثار الأنبياء قبله، وأنزل عليه الإنجيل، وأمر من بَعثه إليه بالعمل بما فيه. ثم ذكر نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره أنه أنزل إليه الكتابَ مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره، وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعةً غيرَ شرائع الأنبياء والأمم قبلَه الذين قصَّ عليهم قصصَهم، وإن كان دينه ودينهم -في توحيد الله، والإقرار بما جاءهم به من عنده، والانتهاء إلى أمره ونهيه- واحدًا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكل واحد منهم ولأمته فيما أُحِلّ لهم وحُرِّم عليهم». وبنحوه قال ابنُ كثير (٥/ ٢٤٩). وعلَّقَ ابنُ عطية (٣/ ١٨٤) مُوَضِّحًا المراد مِن ذلك القول، فقال: «وهذا عندهم في الأحكام، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم، توحيد وإيمان بالبعث وتصديق للرسل، وقد ذكر الله تعالى في كتابه عددًا من الأنبياء شرائعهم مختلفة، ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: ٩٠]، فهذا عند العلماء في المعتقدات فقط، وأما في الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}».وبيَّن أن قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكُمْ} يحتمل احتمالين: الأول: الأمم. الثاني: أن يكون المراد: الأنبياء لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم. ثم قال: «وتجيء الآية -مع هذا الاحتمال في الأنبياء- تنبيهًا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أي: فاحفظ شرعتك ومنهاجك لئلا يستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه».