فإذا تَفرَّقوا خرَج فتَقَنَّع بثوبِه، ثم صَعِد الجبل، فكان يفعلُ ذلك غيرَ مَرَّةٍ مُتَنَكِّرًا. قال: فقلتُ: أما إنك تفعلُ كذا وكذا، فلِمَ لا تذهَبُ بي معك؟ قال: أنت غلامٌ، وأخافُ أن يظهرَ منك شيءٌ. قال: قلتُ: لا تَخَفْ. قال: فإنّ في هذا الجبل قومًا في بِرْطِيل (١)، لهم عبادةٌ وصلاحٌ، يَذْكُرون الله - عز وجل -، ويذكرون الآخرة، يزعُمون أنّا عَبَدة النِّيران، وعَبَدة الأوثان، وأنّا على غير دين. قلتُ: فاذهَبْ بي معك إليهم. قال: لا أقدِرُ على ذلك حتى أسْتَأْمِرَهم، وأنا أخافُ أن يظهرَ منك شيءٌ فيَعْلمَ أبي، فيَقْتُلَ القومَ، فيَجْرِيَ هَلاكُهم على يَدَيَّ. قال: قلتُ: لم يظهَرْ منِّي ذلك. فاسْتأمَرَهم، فقال: غلام عندي يتيم، فأُحِبُّ أن يأتِيَكم، ويسمعَ كلامَكم. قالوا: إن كنتَ تَثِقُ به. قال: أرجو ألا يجيءَ منه إلا ما أُحِبُّ. قالوا: فجئْ به. فقال لي: قد استأذَنتُ القومَ أن تَجِيءَ معي، فإذا كانت الساعة التي رأيتَني أخرجُ فيها فأْتِني، ولا يعلمُ بك أحدٌ، فإنّ أبي إن علِم قَتَلَهم. قال: فلما كانت الساعة التي يخرُجُ تَبِعْتُه، فصَعِد الجبل، فانتَهَينا إليهم، فإذا هم في بِرطِيلِهم -قال علي: وأُراه قال: هم ستةٌ أو سبعةٌ- قال: وكأنّ الروحَ قد خرَجت منهم مِن العبادة، يصومون النهار، ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجَدوا، فقَعَدْنا إليهم، فأثْنى ابن الدِّهْقان عليَّ خيرًا، فتَكَلَّموا، فحَمِدوا الله، وأثْنَوا عليه، وذكَروا مَن مَضى مِن الرسل والأنبياء، حتى خَلَصوا إلى عيسى ابن مريم، قالوا: بعَثه الله، ووُلد بغير ذَكَر، بعَثه الله رسولًا، وسخَّر له ما كان يفعلُ مِن إحياء الموتى، وخَلْقِ الطير، وإبراء الأعمى والأبرص، فكفَر به قومٌ وتَبِعه قومٌ، وإنما كان عبدَ الله ورسولَه، ابْتَلى به خلقَه. قال: وقالوا قبلَ ذلك: يا غلامُ، إن لك ربًّا، وإن لك معادًا، وإن بينَ يَدَيْك جنةً ونارًا، إليها تَصِيرُ، وإن هؤلاء القومَ الذين يعبُدون النيران أهلُ كفرٍ وضلالة، لا يَرْضى الله بما يَصْنَعون، وليسوا على دين. فلما حَضَرت الساعةُ التي ينصرفُ فيها الغلام انصَرَف وانصَرَفْتُ معه، ثم غَدَوْنا إليهم، فقالوا مثلَ ذلك وأحسنَ، فلَزِمْتُهم، فقالوا: يا سلمان، إنك غلام، وإنك لا تستطيعُ أن تصنعَ كما نصنع، فكُلْ واشرَبْ، وصَلِّ ونَمْ. قال: فاطَّلَع الملك على صنيع ابنِه، فرَكِب الخيل حتى أتاهم في بِرْطِيلِهم، فقال: يا هؤلاء، قد جاوَرْتُموني فأحْسَنْتُ جوارَكم، ولم تَرَوْا مِنِّي سُوءًا، فعَمَدْتم إلى ابني فأفْسَدْتُموه عليَّ، قد أجَّلْتُكم ثلاثًا؛ فإن قَدَرْتُ عليكم بعدَ ثلاثٍ أحْرَقْتُ عليكم بِرْطِيلَكم هذا،