ورجَّح القولَ الأول مستندًا إلى السياق، فقال: «و {الكتاب}: القرآن، وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات». وبيَّن ابنُ القيم (١/ ٣٤٦ - ٣٤٨) أنّ القول بكونه القرآن؛ إما أن يكون من العام المراد به الخاص، أي: ما فرطنا فيه من شيء يحتاجون إلى ذكره وبيانه، كقوله: {ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، وإما أن يكون من العام المراد به عمومه، والمراد: أنّ كل شيء ذُكِرَ فيه مجملًا ومفصلًا. ورجَّح ابنُ القيم أنّه اللوح المحفوظ مستندًا إلى السياق، فقال: «وكأن هذا القول أظهر في الآية، والسياق يدل عليه؛ فإنه قال: {وما مِن دابَّةٍ فِي الأَرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أمْثالُكُم}، وهذا يتضمن أنها أممٌ أمثالنا في الخلق والرزق والأكل والتقدير الأول، قد قُدِّر خلقها وأجلها ورزقها وما تصير إليه، ثم ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها، ثم قال: {إلى ربهم يحشرون}، فذكر مبدأها ونهايتها، وأدخَلَ بين هاتين الحالتين قوله: {ما فَرَّطْنا فِي الكِتابِ مِن شَيْءٍ}، أي: كلها قد كُتبت وقُدِّرت وأُحصيت، فلا يناسب هذا ذكر كتاب الأمر والنهي، وإنما يناسبه ذكر الكتاب الأول». وبنحوه رجَّح ابنُ تيمية (٣/ ٢٣) مستندًا إلى السياق. ووجَّه ابنُ عطية معنى قوله تعالى: {من شيء} على القول الثاني بأنّها عامة في جميع الأشياء، وأنها خاصة في الأشياء التي فيها منافع للمخاطبين وطرائق هدايتهم على القول الأول. ثم ذكر ابنُ القيم أنّ من قال بكونه القرآن يمكنه الاستناد إلى نفس الآية المستدل بها أصحاب القول الآخر، ذلك أنّ القرآن تضمن الإخبار عن كل ما كان وما هو كائن جملة وتفصيلًا، وأنه يشهد لكونه القرآن أنّ هذا ذُكر عقيب قوله تعالى: {وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً ولَكِنَّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، فنبههم على أعظم الآيات وأدلها على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الكتاب الذي يتضمن بيان كل شيء، ولم يفرط فيه من شيء، ثم نبههم بأنهم أمة من جملة الأمم التي في السماوات والأرض، وهذا يتضمن التعريف بوجود الخالق، وكمال قدرته وعلمه وسعة ملكه. فهذا دليل على وحدانيته وصفات كماله من جهة خلقه وقدره، وإنزال الكتاب الذي لم يفرط فيه من شيء دليل من جهة أمره وكلامه، فهذا استدلال بأمره، وذاك بخلقه. ثم ذكر أنّ مَن قال إن الكتاب اللوح المحفوظ يمكنه أيضًا الاستدلال بقوله تعالى: {وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً ولَكِنَّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، ذلك أنهم لما سألوا آية أخبرهم سبحانه بأنه لم يترك إنزالها لعدم قدرته على ذلك، فإنّه قادر على ذلك، وإنما لم ينزلها لحكمته ورحمته بهم وإحسانه إليهم؛ إذ لو أنزلها على وفق اقتراحهم لعوجلوا بالعقوبة إن لم يؤمنوا، ثم ذكر ما يدل على كمال قدرته بخلق الأمم العظيمة التي لا يحصي عددها إلا هو، فمن قدر على خلق هذه الأمم مع اختلاف أجناسها وأنواعها وصفاتها وهيئاتها كيف يعجز عن إنزال آية؟! ثم أخبر عن كمال قدرته وعلمه بأن هؤلاء الأمم قد أحصاهم وكتبهم وقدر أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم في كتاب لم يفرط فيه من شيء ثم يميتهم ثم يحشرهم إليه ... فهو أظهر القولين.