وعلَّقَ ابن جرير (٩/ ٥٦١) على تأويل ابن عباس هذا قائلًا: «تأويل الآية على هذا التأويل الذي تأوَّله ابن عباس: ألم يأتكم أيها الجن والإنس رسل منكم؟ فأمّا رسل الإنس فرسل من الله إليهم، وأما رسل الجن فرسُل رُسُلِ الله من بني آدم، وهم الذين إذا سَمِعوا القرآنَ ولّوا إلى قومهم منذرين. وأما الذين قالوا بقول الضحاك، فإنهم قالوا: إنّ الله -تعالى ذكره- أخبرَ أنّ من الجن رسلًا أرسلوا إليهم، كما أخبر أنّ من الإنس رسلًا أرسلوا إليهم، قالوا: ولو جاز أن يكون خبرُه عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رُسُل الجنّ. قالوا: وفي فساد هذا المعنى ما يدلُّ على أنّ الخبرين جميعًا بمعنى الخبر عنهم أنهم رُسُل الله؛ لأنّ ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره». ورجَّحَ ابنُ كثير (٦/ ١٧٦) القولَ الثاني استنادًا إلى القرآن، ودلالة العقل، فقال: «الدليل على أنّ الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} إلى قوله: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: ١٦٣ - ١٦٥]، وقال تعالى عن إبراهيم: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} [العنكبوت: ٢٧]، فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد من الناس: إنّ النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل، ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} [الفرقان: ٢٠]، وقال: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} [يوسف: ١٠٩]، ومعلوم أنّ الجن تَبَع للإنس في هذا الباب، ولهذا قال تعالى إخبارًا عنهم: {وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقًا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين} [الأحقاف: ٢٩ - ٣٢]. وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا عليهم سورة الرحمن، وفيها قوله تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأي آلاء ربكما تكذبان}». وذكر ابنُ عطية (٣/ ٤٦٣) أنّ قوله: {غرتهم الحياة الدنيا} التفاتة فصيحة، تضمَّنت أنّ كفرهم كان بأذمِّ الوجوه لهم؛ وهو الاغترار الذي لا يُواقِعه عاقل، ثم قال: «ويحتمل {غرتهم} أن يكون بمعنى: أشبعتهم وأطعمتهم بحلوائها، كما يقال: غرَّ الطائرُ فرخَه».