ورجَّح ابنُ جرير (١١/ ٥٦٨) مستندًا إلى واقع الحال في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القولَ الأول الذي قاله ابن مسعود، والحسن، فقال: «وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قال ابنُ مسعود مِن أنّ الله أمَرَ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - من جهاد المنافقين بنحو الذي أمَرَه به مِن جهاد المشركين. فإن قال قائل: فكيف تركهم - صلى الله عليه وسلم - مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم؟ قيل: إنّ الله -تعالى ذِكْرُه- إنّما أمَرَ بقتال مَن أظهر منهم كلمة الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك. وأمّا من إذا اطُّلِع عليه منهم أنّه تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها أنكرها ورجع عنها، وقال: إنِّي مسلم، فإنّ حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه أن يحقن بذلك له دمه وماله وإن كان معتقدًا غير ذلك، وتَوَكَّل هو -جلَّ ثناؤه- بسرائرهم، ولم يجعل للخلق البحث عن السرائر، فلذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علمه بهم وإطْلاع الله إيّاه على ضمائرهم واعتقاد صدورهم، كان يقرهم بين أظهر الصحابة، ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبه الحرب على الشرك بالله؛ لأنّ أحدهم كان إذا اطُّلِع عليه أنّه قد قال قولًا كفر فيه بالله ثم أخذ به أنكره، وأظهر الإسلام بلسانه، فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - يأخذه إلا بما أظهر له من قوله عند حضوره إيّاه وعزمه على إمضاء الحكم فيه، دون ما سلف من قولٍ كان نطق به قبل ذلك، ودون اعتقاد ضميره الذي لم يبح الله لأحد الأخذ به في الحكم وتَوَلّى الأخذ به هو دون خلقه». وانتَقَدَ ابنُ عطية (٤/ ٣٦٤) هذا القول مستندًا إلى دلالة العقل، فقال: «والقتل لا يكون إلا مع التجليح [المكاشفة]، ومَن جلَّح خرج عن رتبة النفاق». وذكر (٤/ ٣٦٣ - ٣٦٤) أنّ قوله: {جاهِدِ} مأخوذ مِن بلوغ الجهد، وهي مقصود بها المكافحة والمخالفة، وأنها تتنوع بحسب المجاهد، فجهاد الكافر المعلن بالسيف، وجهاد المنافق المتستر باللسان والتعنيف والاكفهرار في وجهه، ونحو ذلك. ثم رجَّح ذلك مستندًا إلى النظائر، فقال: «ألا ترى أنّ مِن ألفاظ الشرع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله». فجهاد النفس إنّما هو مصابرتها باتِّباع الحق وترك الشهوات، فهذا الذي يليق بمعنى هذه الآية». ورأى ابنُ كثير (٧/ ٢٣٧) تقارب الأقوال مستندًا إلى واقع الحال، فقال: «لا منافاة بين هذه الأقوال؛ لأنّه تارة يؤاخذهم بهذا، وتارة بهذا، بحسب الأحوال».