للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ذُعِرَتْ منها الملائكةُ ذُعْرًا شديدًا، وقالوا: ربَّنا، لِمَ خلقتَ هذه النار، ولأيِّ شيء خلقتَها؟ قال: لِمَن عصاني مِن خلقي. قال: ولَمْ يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق، إنما خلق آدم بعد ذلك. وقرأ قول الله: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا} [الإنسان: ١]. قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ليت ذلك الحين (١). ثم قال: قالت الملائكة: يا رب، أوَيأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه! لا يرون له خلقًا غيرهم، قال: لا، إنِّي أُريد أن أخلق في الأرض خلقًا، وأجعل فيها خليفة، يسفكون الدماء، ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة: أتجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، وقد اخْتَرْتَنا؟ فاجعلنا نحن فيها، فنحن نُسَبِّح بحمدك ونُقَدِّس لك، ونعمل فيها بطاعتك. وأَعْظَمَتِ الملائكةُ أن يجعل الله في الأرض من يعصيه، فقال: {إني أعلم ما لا تعلمون}، {يا آدم أنبئهم بأسمائهم}. فقال: فلان، وفلان. قال: فلما رَأَوْا ما أعطاه الله من العلم عليهم، أقرُّوا لآدم بالفضل عليهم، وأبى الخبيثُ إبليسُ أن يُقِرَّ له، قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين* قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها} [الأعراف: ١٢ - ١٣] (٢) [١٤٢] [١٤٣]. (١/ ٢٤٤)


[١٤٢] علَّقَ ابنُ جرير (١/ ٤٧٩) على قول ابن زيد بقوله: «وهذا القول يَحْتَمِل ما حُكِي عن الحسن [من أنّ المراد بالخليفة: هم ولد آدم الذين يخلفون أباهم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبل]، ويَحْتَمِل أن يكون أراد ابنُ زيد أنّ الله أخبر الملائكة أنّه جاعِلٌ في الأرض خليفة له، يَحْكُم فيها بين خلقه بحُكْمِه». وقال في (١/ ٥٠٠): «وغيرُ خطإٍ أيضًا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيلُ الملائكة ما قالَتْ من ذلك على وجه التَّعَجُّب منها من أن يكون لله خَلْقٌ يعصي خالقه».وعلَّق ابن عطية (١/ ١٦٧) على قول ابن زيد بقوله: «فهذا إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعًا: الاستخلاف، والعصيان».
وقال ابن عطية (١/ ١٦٨): «قال قوم: معنى الآية: ونحن لو جعلتنا في الأرض واستخلفتنا نسبح بحمدك. وهذا أيضًا حسن مع التعجب والاستعظام في قولهم: أتَجْعَلُ».
[١٤٣] رَجَّحَ ابن جرير (١/ ٤٩٨ - ٥٠١) بدلالة ظاهر الآية، ونظائرها أن الله - عز وجل - أخبر الملائكة بأن ذرية خليفته في الأرض يفسدون فيها، ويسفكون فيها الدماء. وأنّ قول الملائكة له: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} استخبارٌ منها لربها، لا إنكار منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وقال (١/ ٥٠٠ - ٥٠١): «فإن قال قائل: فإن كان أوْلى التأويلات بالآية هو ما ذكرت، من أنّ الله أخبر الملائكة بأن ذرية آدم خليفته في الأرض يفسدون فيها، ويسفكون فيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها}، فأين ذكر إخبار الله إياهم في كتابه بذلك؟ قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهر من الكلام عليه عنه، فقوله: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها}؛ لِما كان فيه دلالة على ما تُرِك ذِكْرُه بعد قوله: {إني جاعل في الأرض خليفة} من الخبر عَمّا يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته، وحذف وترك ذِكْرَه، ونظائر ذلك في القرآن، وأشعار العرب، وكلامها أكثر من أن يحصى».
وانتقد ابن جرير (١/ ٥٠٠) ما سوى ذلك بقوله: «وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع بن أنس، وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك؛ لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطع مجيئه العذر، ويلزم سامعه به الحجة، والخبر عما مضى وما قد سلف، لا يدرك علم صحته إلا بمجيئه مجيئًا يمتنع معه التَّشاغُب والتَّواطُؤ، ويستحيل معه الكذبُ والخطأُ والسَّهْوُ، وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع، ولا فيما قاله ابن زيد».

<<  <  ج: ص:  >  >>