للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

{يمحُوا اللهُ ما يشاءُ} مما يُنَزِّل على الأنبياء، {ويُثبتُ} ما يشاءُ مِمّا يُنَزِّلُ على الأنبياء (١) [٣٥٣٠]. (٨/ ٤٧٦)


[٣٥٣٠] اختُلِف في معنى المحو والإثبات المذكور في الآية على أقوال: الأول: أنّه عامٌّ في كُلِّ ما أراد الله محوه أو إثباته مِن رزق وأجلٍ وسعادة وشقاوة وغير ذلك. وهذا قول عمر، وابن مسعود، وابن عباس من طريق العوفي، وقول كعب الأحبار، وأبي وائل، والضحاك. الثاني: يمحو الله ما يشاء مِن أمور عباده فيغيره، إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يغيران. وهو قول ابن عباس من طريق سعيد بن جبير، ومجاهد من طريق منصور. الثالث: يمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء في كتاب سوى أُم الكتاب، وهما كتابان أحدهما: أم الكتاب لا يغيره ولا يمحو منه شيئًا كما أراد. وهذا قول ابن عباس من طريق عكرمة، وقول عكرمة. الرابع: أنّه الناسخ والمنسوخ، فيمحو المنسوخ، ويثبت الناسخ. وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابن جريج، ومقاتل بن سليمان، وعبد الرحمن بن زيد. الخامس: يمحو مَن جاء أجلُه ويُثبِتُ مَن لم يجئْ أجلُه. وهو قول الحسن، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح. السادس: يغفر ما يشاء مِن ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره. وهو قول سعيد بن جبير. السابع: يمحو مِن ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويُثبِتُ ما فيه ثواب وعقاب. وهو قول الضحاك، والكلبي. الثامن: يمحو ما يشاء بالتوبة، ويثبت مكانها حسنات. وهو قول عكرمة. التاسع: يمحو القمرَ، ويثبت الشمس مكانه. وهو قول السدي.
ورجّح ابنُ جرير (٥٦٩ - ٥٧١) مستندًا إلى السياق، والسنة القول الخامس، وعلَّل ذلك بقوله: «وذلك أنّ الله -تعالى ذِكْرُه- تَوَعَّد المشركين الذين سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآيات بالعقوبة، وتهددهم بها، وقال لهم: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب}، يُعلمُهم بذلك أنّ لقضائه فيهم أجلًا مُثبتًا في كتاب، هم مُؤَخَّرون إلى وقت مجيء ذلك الأجل. ثم قال لهم: فإذا جاء ذلك الأجل محى اللهُ ما شاء مِمَّن قد دنا أجله وانقطع رزقه، أو حان هلاكه، أو اتضاعه من رفعة، أو هلاك مال، فيقضي ذلك في خلقه، فذلك مَحْوُه، ويثبت ما شاء مِمَّن بقي أجله ورزقه وأكله، فيتركه على ما هو عليه، فلا يمحوه. وبهذا المعنى جاء الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». ثم ساق حديث أبي الدرداء، وأدخل تحته أثر ابن عباس من رواية عطاء، وأثر قيس بن عُبَاد.
ورجّح ابنُ عطية (٥/ ٢١٢) القول الثاني مستندًا إلى العموم، فقال: «وتَخَبَّط الناسُ في معنى هذه الألفاظ، والذي يَتَلَخَّص مِن مسلكها أن نعتقد أنّ الأشياء التي قدَّرها الله تعالى في الأزل وعلِمَها بحالٍ ما لا يَصِحُّ فيها مَحْوٌ ولا تبديل، وهي التي كُتِبَت في أم الكتاب، وسبق بها القضاءُ، وهذا مرويٌّ عن ابن عباس وغيرِه مِن أهل العلم، وأمّا الأشياء التي قد أخبر الله تعالى أنّه يبدل فيها وينقل كغفر الذنوب بعد تقريرها، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها، ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك، وأما إذا رد الأمر للقضاء والقدر فقد محا الله ما محا، وثبت ما ثبت».
واستدرك على القول الخامس بأنّ ذلك في الآجال، وعلى قول قيس بن عباد بأنّ المحو والإثبات في العاشر من محرم بقوله: «وهذا التخصيص في الآجال أو غيرها لا معنى له، وإنما يحسن من الأقوال هنا ما كان عامًّا في جميع الأشياء». واستدرك (٥/ ٢١٣) على القول الأول والثالث بأنّها سهلة المعارضة.
وعلَّق ابنُ كثير (٨/ ١٦٥) على القول الأول بقوله: «ومعنى هذه الأقوال: أنّ الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها، ويثبت منها ما يشاء، وقد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد: حدثنا وكِيع، حدثنا سفيان وهو الثوري، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجَعْد، عن ثَوْبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الرجل لَيُحْرَم الرزق بالذنب يُصِيبه، ولا يَرُدُّ القَدَر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البِرّ»». ثم ساق أحاديث وآثارًا في نفس المعنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>