ووجَّه ابنُ جرير (١٣/ ٦٠٨) القول الثالث، وهو قول مجاهد، وقتادة بقوله: «وكأنّ مجاهدًا وجَّه قوله: {فَرَدُّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْواهِهِمْ} إلى معنى: ردُّوا أياديَ الله التي لو قبلوها كانت أياديَ ونعمًا له عندهم، فلم يقبلوها، ووجَّه قوله: {فِي أفْواهِهِمْ} إلى معنى: بأفواههم، يعني: بألسنتهم التي في أفواههم». وعلَّق عليه ابنُ كثير (٨/ ١٨٢) بقوله: «ويؤيد قول مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام {وقالُوا إنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وإنّا لَفِي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ مُرِيبٍ} فكأنّ هذا -والله أعلم- تفسير لمعنى {فَرَدُّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْواهِهِمْ}». ورجَّح ابنُ جرير (١٣/ ٦٠٩) القول الأول مستندًا إلى النظائر، ولغة العرب، وهو قول ابن مسعود، وابن زيد، فقال: «وأشبه هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل هذه الآية، القول الذي ذكرناه عن عبد الله بن مسعود، أنهم ردُّوا أيديهم في أفواههم، فعضُّوا عليها غيظًا على الرسل، كما وصف الله - عز وجل - به إخوانهم من المنافقين، فقال: {وإذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنامِلَ مِنَ الغَيْظِ} [آل عمران: ١١٩]، فهذا هو الكلام المعروف، والمعنى المفهوم من ردِّ اليد إلى الفم». وحكى ابنُ عطية (٥/ ٢٢٨) عن المهدوي قولًا وصفه بالضعف، «وهو أنّ المعنى: أخذوا أيدي الرسل فجعلوها في أفواه الرسل». وانتقده قائلًا: «وهذا عندي لا وجْه له». وذكر أنّ «الأيدي» في هذه الآية قد تتأول بمعنى: الجوارح، وقد تتأول بمعنى: أيدي النعم، ثم قال: «ومما ذكر على أن الأيدي: أيدي النعم، ما ذكره الزجاج، وذلك أنّهم ردُّوا آلاء الرسل في الإنذار والتبليغ بأفواههم، أي: بأقوالهم، -فوصل الفعل بـ» فِي «عوض وصوله بـ» الباء «- وروي نحوه عن مجاهد وقتادة». ثم بيَّن أن المشهور في جمع «يد» النعمة: أياد، وأنها لا يجمع على «أيد»، ثم قال: «إلا أنّ جمعه على أيدٍ لا يكسر بابًا ولا ينقض أصلًا، وبحسبنا أن الزجاج قدَّره وتأول عليه». وذكر أن اللفظ يحتمل -على هذا- معنًى ثانيًا، وهو أن يكون المقصد: رَدُّوا إنعام الرسل في أفواه الرسل، أي: لم يقبلوه، كما تقول لمن لا يعجبك قوله: أمسك يا فلان كلامك في فمك. ثم علَّق بقوله: «ومن حيث كانت أيدي الرسل أقوالًا ساغ هذا فيها، كما تقول: كسرتُ كلام فلان في فمه، أي: رددتُه عليه، وقطعته بقِلَّة القبول والردِّ». ونقل أنّ المهدوي حكى عن مجاهد أنّه قال: معناه: ردوا نِعم الرسل في أفواه أنفسهم بالتكذيب والنَّجْه.