ومضى حتى إذا استوى على ثنية كَداء أقبل على الوادي، فدعا، فقال:{ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}. قال: ومع الإنسانة شَنَّةٌ (١) فيها ماء، فنَفِد الماء، فعَطِشَتْ، وانقطع لبنها، فعَطِش الصبيُّ، فنظرت أيّ الجبال أدنى مِن الأرض، فصعِدت بالصَّفا، فتَسَمَّعَتْ هل تسمع صوتًا أو ترى أنِيسًا، فلم تسمع، فانحدرت، فلمّا أتت على الوادي سَعَتْ وما تريد السعي، كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد السعي، فنَظَرَتْ أيَّ الجبال أدنى مِن الأرض، فصعدت المروةُ، فتَسَمَّعَتْ هل تسمع صوتًا، أو ترى أنيسًا، فسمعت صوتًا، فقالت كالإنسان الذي يُكَذِّب سمعَه: صَه. حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتَك، فأغِثْنِي، فقد هلكتُ وهلك مَن معي. فجاء الملَك، فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم، فضرب بقدمه، ففارَتْ عينًا، فعَجِلَت الإنسانةُ، فجعلت في شَنّتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رَحِم اللهُ أمَّ إسماعيل، لولا أنّها عجِلت لكانت زمزمُ عينًا مَعِينًا». وقال لها الملَك: لا تخافي الظَّمَأَ على أهل هذا البلد، فإنّما هي عين لِشُرب ضيفان الله. وقال: إنّ أبا هذا الغلام سيجيء، فيبنيان لله بيتًا هذا موضعه. قال: ومرَّتْ رِفقةٌ مِن جُرْهُم تريد الشام، فرأوا الطيرَ على الجبل، فقالوا: إنّ هذا الطيرَ لَعائِفٌ على ماء، فهل علمتم بهذا الوادي مِن ماء؟ فقالوا: لا. فأَشْرَفُوا، فإذا هم بالإنسانة، فأَتَوْها، فطلبوا إليها أن ينزلوا معها، فأَذِنَت لهم. قال: وأتى عليها ما يأتي على هؤلاء الناس مِن الموت، فماتت، وتزوَّج إسماعيلُ امرأةَ منهم، فجاء إبراهيمُ، فسأل عن منزل إسماعيل حتى دَلَّ عليه، فلم يجِدْه، ووجد امرأةً له فظَّةً غليظة، فقال لها: إذا جاء زوجُكِ فقولي له: جاء ههنا شيخٌ مِن صفته كذا وكذا، وإنّه يقول لك: إنِّي لا أرضى لك عَتَبَةَ بابك، فحوِّلها. وانطَلَق، فلمّا جاء إسماعيل أخبرته، فقال: ذاك أبي، وأنتِ عَتَبَة بابي. فطلَّقها، وتزَوَّج امرأة أخرى منهم، وجاء إبراهيم حتى انتهى إلى منزل إسماعيل، فلم يجده، ووجد امرأةً له سهلة طَلِيقَةً، فقال لها: أين انطلَق زوجُك؟ فقالت: انطَلَق إلى الصيد. قال: فما طعامكم؟ قالت: اللحم، والماء. قال: اللَّهُمَّ، بارِك لهم في لحمهم ومائهم، اللَّهُمَّ، بارك لهم في لحمهم ومائهم. ثلاثًا، وقال لها: إذا جاء زوجُكِ فأخبريه، قولي: جاء ههنا شيخ
(١) الشَّنَّة: القديم من كل آنية صُنعت من جِلد. اللسان (شنن).