ورجَّح ابنُ جرير (١٤/ ٧١) القراءة الأولى مستندًا إلى إجماع الحُجَّة مِن القرأة عليها، وشذوذ ما خالفها. وكذا رجَّحها ابنُ كثير (٨/ ٢٥٨) قائلًا: «والمشهور القراءة الأولى». ووجَّه ابنُ عطية (٥/ ٢٩٣) القراءة الأولى بقوله: «والإشارة بـ {هذا} -على هذه القراءة- إلى انقسام الناس إلى غاوٍ ومخلص، لما قسَّم إبليس الناس هذين القسمين، قال الله له: هذا طريق إلَيَّ، أي: هذا أمر مصيره إلَيّ، والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان. أي: إليه يصير النظر في أمرك، وهذا نحو قوله تعالى: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ} [الفجر: ١٤]، والآية -على هذه القراءة- خبر تتضمن وعيدًا». ووجَّه القراءة الثانية بقوله: «والإشارة بـ {هذا} -على هذه القراءة- إلى الإخلاص، لَمّا استثنى إبليس مَن أخلص قال الله له: هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم، لا تنال أنت بإغوائك أهلَه». [٣٦٠٩] نقل ابنُ تيمية (٤/ ١٢٦ - ١٢٧) عن ابن الجوزي في معنى الآية ثلاثة أقوال -غير قول مجاهد، والحسن-: الأول: «أنّه يعني بقوله هذا: الإخلاص، فالمعنى: أنّ الإخلاص طريق إلَيَّ مستقيم، و {عَلَيَّ} بمعنى: إليَّ». الثاني: «هذا طريق عليَّ جَوازه، لأنِّي بالمرصاد فأجازيهم بأعمالهم، وهو خارج مخرج الوعيد، كما تقول للرجل تخاصمه: طريقك عليَّ، فهو كقوله: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ} [الفجر: ١٤]». الثالث: «هذا صراطٌ عليَّ استقامته، أي: أنا ضامِنٌ لاستقامته بالبيان والبرهان». ووجَّه ابنُ القيم (٢/ ١٠٢) قول الحسن بقوله: «وهذا يحتمل أمرين: أن يكون أراد به: أنّه مِن باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض، فقامت أداة» على «مقام» إلى «، والثاني: أنه أراد التفسير على المعنى، وهو الأشبه بطريق السلف، أي: صراط موصل إليَّ». وعلَّق على قول مجاهد بقوله: «وهذا مثل قول الحسن وأبْيَن منه». ووجَّه ابنُ كثير (٨/ ٢٥٨) قول مجاهد، والحسن بأنه: «كقوله: {وعَلى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: ٩]». ورجَّح ابنُ جرير (١٤/ ٧١) وابنُ تيمية (٤/ ١٢٦ - ١٢٧) قول مجاهد والحسن، فقال ابنُ تيمية: «القول الصواب هو قول أئمة السلف -قول مجاهد ونحوه-؛ فإنّهم أعلم بمعاني القرآن ... ». وقال ابنُ القيم: «وهو مِن أصحِّ ما قيل في الآية». وانتقد ابنُ تيمية (٤/ ١٢٨) القول الثاني مستندًا إلى أقوال السلف، وكلام العرب، والدلالة العقلية قائلًا: «هذا قول لم يُنقَل عن أحد مِن علماء التفسير، لا في هذه الآية ولا في نظيرها، وإنّما قاله الكسائيُّ لما أشكل عليه معنى الآية الذي فهمه السلف، ودلَّ عليه السياق والنظائر. وكلام العرب لا يدل على هذا القول، فإنّ الرجل وإن كان يقول لمن يتهدده ويتوعده: عليَّ طريقك. فإنه لا يقول: إن طريقك مستقيم. وأيضًا فالوعيد إنما يكون للمسيء، لا يكون للمخلصين، فكيف يكون قوله هذا إشارة إلى انقسام الناس إلى غاوٍ ومُخْلِص، وطريق هؤلاء غير طريق هؤلاء؟ ... وأيضًا فإنّما يقول لغيره في التهديد: طريقك عليّ. مَن لا يقدر عليه في الحال، لكن ذاك يمر بنفسه عليه وهو متمكن منه، كما كان أهل المدينة يتوعدون أهل مكة بأنّ: طريقكم علينا. لما تهددوهم بأنكم آويتم محمدًا وأصحابه ... ومثل هذا المعنى لا يقال في حق الله تعالى، فإنّ الله قادر على العباد حيث كانوا، كما قالت الجن: {وأَنّا ظَنَنّا أنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ ولَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن: ١٢]، وقال: {وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [العنكبوت: ٢٢]». وكذا قال ابنُ القيم (٢/ ١٠٣ بتصرف) مستندًا إلى السياق، والدلالة العقلية: «والسياق يأبى هذا، ولا يناسبه لمن تأمَّله، فإنّه قاله مجيبًا لإبليس الذي قال: {إلا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلََصِينَ}، فإنّه لا سبيل لي إلى إغوائهم، ولا طريق لي عليهم. فقرَّر الله - عز وجل - ذلك أتمَّ التقرير، وأخبر أنّ الإخلاص صراطٌ عليه مستقيم، فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط؛ لأنه صراط عليّ ... وأمّا تشبيه هذه الآية بقوله: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ} [الفجر: ١٤]، فلا يخفى الفرق بينهما سياقًا ودلالةً، فتأمَّله، ولا يقال في التهديد: هذا صراطٌ مستقيم عليّ، لمن لا يسلكه، وليست سبيل المهدد مستقيمة فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم، وسبيله التي هو عليها ليست مستقيمة على الله، فلا يستقيم هذا القول البتة». وانتقد ابنُ القيم (٢/ ١٠٤) القول الثالث مستندًا إلى دلالة اللغة قائلًا: «وأمّا مَن فسَّره بالوجوب، أي: عليَّ بيان استقامته والدلالة عليه، فالمعنى صحيح، لكن في كونه هو المراد بالآية نظر؛ لأنه حُذِف في غير موضع الدلالة، ولم يؤلف الحذف المذكور؛ ليكون مدلولًا عليه إذا حُذِف، بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة فإنّه حذف مألوف معروف، حتى إنه لا يذكر البتة، فإذا قلت: له درهم عليَّ، كان الحذف معروفًا مألوفًا، فلو أردت: عليَّ نَقْدُه، أو عليَّ وزنه وحفظه، ونحو ذلك، وحذفت، لم يَسُغْ، وهو نظير: عليَّ بيانه، المقدر في الآية، مع أن الذي قاله السلف أليق بالسياق، وأجلّ المعنيين وأكبرهما». وبيَّن ابنُ تيمية (٤/ ١٢٨ بتصرف) أنّ ابن عطية «لم يذكر في هذه الآية إلا قول الكسائي، وهو أضعف الأقوال، وأنه ذَكَر المعنى الصحيح تفسيرًا لقراءة: «عَلِيٌّ مُّسْتَقِيمٌ» بالرفع». ثم بيَّن أن ابن عطية ذكر قول مجاهد في هذه الآية عند تفسير قوله تعالى: {وعَلى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ومِنها جائِرٌ} [النحل: ٩]، ثم قال: «فهو بفطرته عرف أن هذا معنى الآية، ولكنه لما فسرها ذكر ذلك القول، كأنه هو الذي اتفق أن رأى غيره قد قاله هناك». وذلك القول الذي أشار إليه ابن تيمية ذكره ابن عطية (٥/ ٣٣١) في تفسير قوله تعالى: {وعَلى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ومِنها جائِرٌ} فقد ذكر معنًى ذهب إليه المفسِّرون، ثم قال: «ويحتمل أن يكون المعنى: أنّ مَن سلك السبيل القاصد فعلى الله طريقه، وإلى الله مصيره، فيكون هذا مثل قوله: {هَذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}». ثم علَّق عليه ابنُ تيمية (٤/ ١٣٠) بقوله: «وقد أحسن? في هذا الاحتمال، وفي تمثيله ذلك بقوله: {هَذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}».