وعلَّقَ ابن عطية (٥/ ٤٥٤) على الوجه الثاني، فقال: «وأما (أمَّرْنا) من الإمارة فمتوجه على وجهين: أحدهما: أن لا يريد إمارة الملْكِ، بل كونهم يأمرون ويُؤْتمر لهم؛ فإن العرب تقول لمن يأمر الإنسان -وإن لم يكن ملكًا- هو أمير ... وأيضًا فلو أراد إمارة الملك في الآية لحَسُنَ المعنى؛ لأن الأمة إذا مَلَّكَ الله عليها مترفًا ففسق، ثم ولّى مثله بعده، ثم كذلك عَظُمَ الفساد وتوالى الكفر، واستحقوا العذاب، فنزل بهم على رجل الأخير من ملوكهم». وعلَّقَ على الوجه الرابع، فقال: «لا أتحقّق وجهًا لهذه القراءة إلا إن كان» أمِرَ القومُ «يتعدّى بلفظه». ورجَّحَ ابنُ جرير (١٤/ ٥٣٢) الوجه الأول بمعناه الأول، فقال: «أولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة مَن قرأ: {أمَرْنا مُتْرَفِيها} بقصر الألف مِن {أمرنا}، وتخفيف الميم منها؛ لإجماع الحجة من القراء على تصويبها دون غيرها. وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة فأولى التأويلات به تأويل مَن تأوّله: أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها فحق عليهم القول؛ لأن الأغلب من معنى» أمرنا «الأمر الذي هو خلاف النهي دون غيره، وتوجيه معاني كلام الله -جل ثناؤه- إلى الأشهر الأعرف من معانيه أولى ما وجد إليه سبيل من غيره». و «الأمر» على اختيار ابن جرير دينيّ شرعيّ. ورَجَّحَ ابنُ القيم (٢/ ١٣٤ - ١٣٥) أنّ الأمر في الآية قدريٌّ كونيٌّ، فقال: «هذا أمر تقدير كوني لا أمر ديني شرعي؛ فإن الله لا يأمر بالفحشاء، والمعنى: قضينا ذلك وقدرناه. وقالت طائفة: بل هو أمر ديني، والمعنى: أمرناهم بالطاعة فخالفونا وفسقوا. والقول الأول أرجح؛ لوجوه: أحدها: أن الإضمار على خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا إذا لم يكن تصحيح الكلام بدونه. الثاني: أن ذلك يستلزم إضمارين: أحدهما: أمرناهم بطاعتنا. الثاني: فخالفونا أو عصونا ونحو ذلك. الثالث: أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه، كقولك: أمرته ففعل، وأمرته فقام، وأمرته فركب. لا يفهم المخاطب غير هذا. الرابع: أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور، ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك، بل هو سبب للنجاة والفوز، فإن قيل: أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك. قيل: هذا يبطل بالوجه الخامس وهو: أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين، بل هو سبحانه يأمر بطاعته، واتّباع رسله المترفين وغيرهم، فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين، يوضحه الوجه السادس: أن الأمر لو كان بالطاعة لكان هو نفس إرسال رسله إليهم، ومعلوم أنه لا يحسن أن يقال: أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ففسقوا فيها. فإن الإرسال لو كان إلى المترفين لقال مَن عداهم: نحن لم يرسل إلينا. السابع: أن إرادة الله سبحانه لإهلاك القرية إنما يكون بعد إرسال الرسل إليهم وتكذيبهم، وإلا فقبل ذلك هو لا يريد إهلاكهم؛ لأنهم معذورون بغفلتهم وعدم بلوغ الرسالة إليهم، قال تعالى: {ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأَهْلُها غافِلُونَ} [الأنعام: ١٣١]، فإذا أرسل الرسل فكذبوهم أراد إهلاكها، فأمر رؤساءها ومترفيها أمرًا كونيًّا قدريًّا، لا شرعيًّا دينيًّا بالفسق في القرية، فاجتمع أهلها على تكذيبهم وفسق رؤسائهم، فحينئذ جاءها أمر الله، وحق عليها قوله بالإهلاك».