للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

من مشركي العرب. قال: {وحرم ذلك على المؤمنين} تزويجهن. ثم حرَّم نساء المشركات من غير أهل الكتاب؛ زَوانِيَ كُنَّ أو عفائف، فقال: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: ٢٢١]، {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: ٢٢١]، قال: ولا بأس بتزويج الحُرَّة التي قد زَنَت، وإن أُقِيم عليها الحدُّ (١) [٤٥٩٧]. (ز)


[٤٥٩٧] اختُلِف في تأويل {ينكح} في هذه الآية على قولين: أولهما: أنّه الزواج. ثم هم بعد ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: أنها نزلت في بعض مَن استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح نسوة كنّ معروفات بالزنا مِن أهل الشرك، فأنزل الله تحريمهن على المؤمنين. فهو عامٌّ مرادٌ به الخصوص. والثاني: أنها مخصوصة في الزاني المحدود لا يتزوج إلا زانية محدودة، ولا يتزوج غير محدودة ولا عفيفة، والزانية المحدودة لا يتزوجها إلا زان محدود، ولا يتزوجها غير محدود ولا عفيف. والثالث: أنّ هذا قد كان حكم الله في كلِّ زان وزانية، حتى نسخه الله - عز وجل -، فأحلّ نكاح كلّ مسلمة، وإنكاح كلّ مسلم. ومعنى النكاح في هذا القول: الزواج. وثانيها: أنّه الجماع. ومعناها: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك. ومقصدها تشنيع وتبشيع أمر الزنا وأنّه شأنُ هؤلاء ومن خُلُقِهم.
ورجَّحَ ابنُ جرير (١٧/ ١٦٠ - ١٦١) القولَ الثاني، وانتَقَدَ ما سواه استنادًا إلى أقوال السلف، ودلالة العقل، وزمن التنزيل، فقال: «أولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قولُ مَن قال: عني بالنكاح في هذا الموضع: الوطء، وأنّ الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات؛ وذلك لقيام الحجة على أنّ الزانية من المسلمات حرام على كلّ مشرك، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه كلّ مشركة مِن عبدة الأوثان. فمعلوم إذا كان ذلك كذلك أنه لم يُعنَ بالآية: أنّ الزاني مِن المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات، ولا ينكح إلا زانية أو مشركة. وإذ كان ذلك كذلك فبيّنٌ أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية لا تستحل الزنا، أو بمشركة تستحله».
وكذا اختاره ابنُ عطية (٦/ ٣٣٦)، وقال: «اتصال هذا المعنى بما قبلُ حسنٌ بليغ».
ومثله ابنُ كثير (١٠/ ١٦٥).
وانتَقَدَ ابنُ عطية (٦/ ٣٣٨) الأقوال الأخرى بقوله: «وذِكْرُ الإشراك في الآية يُضْعِفُ هذه المناحي».
واختار ابنُ تيمية (٤/ ٤٨٨ - ٤٨٩) وكذا ابنُ القيم (٢/ ٢٣٣ - ٢٣٤) القول الأول، وأنّ المراد: الزواج، وانتقد ابنُ تيمية (٤/ ٤٨٦ - ٤٨٧، ٥٧٠ - ٥٧١ بتصرف) القول الثاني مستندًا إلى زمن النزول، ودلائل العقل، فقال: «١ - ليس في القرآن لفظ نكاح إلا ولا بُدَّ أن يراد به العقد، وإن دخل فيه الوطء أيضًا، فأمّا أن يراد به مجرد الوطء فهذا لا يوجد في كتاب الله قط. ٢ - أن سبب نزول الآية إنما هو استفتاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في التَّزَوُّج بزانية، فكيف يكون سبب النزول خارجًا من اللفظ؟! ٣ - أنّ الزاني قد يستكره امرأة فيطؤها؛ فيكون زانيًا ولا تكون زانية، وكذلك المرأة قد تزني بنائم ومُكْرَه -على أحد القولين- ولا يكون زانيًا. ٤ - أنّ تحريم الزنا قد علمه المسلمون بآيات نزلت بمكة، وتحريمه أشهر من أن تنزل هذه الآية بتحريمه. ٥ - قال: {لا ينكحها إلا زان أو مشرك}، فلو أريد الوطء لم يكن حاجة إلى ذكر المشرك؛ فإنه زان، وكذلك المشركة إذا زنى بها رجل فهي زانية فلا حاجة إلى التقسيم. ٦ - أنه قد قال قبل ذلك: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}، فأي حاجة إلى أن يذكر تحريم الزنا بعد ذلك؟!».
وقال ابنُ القيم: «وجهها -والله أعلم- أنّ المتزوج أُمِرَ أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنّما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط، كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء والمائدة، والحكم المعلَّق على الشرط ينتفي عند انتفائه، والإباحة قد عُلِّقَت على شرط الإحصان، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به، فالمتزوج إمّا أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله، أو لا يلتزمه، فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا مَن هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرّم عليه لم يصح النكاح فيكون زانيًا، فظهر معنى قوله: {لا ينكح إلا زانية أو مشركة}، وتبين غاية البيان، وكذلك حكم المرأة. وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه فهو موجب الفطرة ومقتضى العقل؛ فإنّ الله سبحانه حَرَّم على عبده أن يكون قرنانًا دَيُّوثًا زوجَ بَغِيٍّ، فإنّ الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه، ولهذا إذا بالغوا في سبِّ الرجل قالوا: زوج قحبة. فحرَّم الله على المسلم أن يكون كذلك، فظهرت حكمة التحريم، وبان معنى الآية».
وانتَقَدَ ابنُ القيم (٢/ ٢٣٤ بتصرف) مَن خصّصَ بسبب النزول بلا تعميم، فقال: «هذا فاسد؛ فإنّ هذه الصورة المُعَيَّنة وإن كانت سبب النزول فالقرآن لا يقتصر به على محالِّ أسبابه، ولو كان كذلك لبطل الاستدلالُ به على غيرها». وقال (٢/ ٢٣٣) عن القول الثاني: «هذا فاسد؛ فإنه لا فائدة فيه، ويُصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك؛ فإنه من المعلوم أنّ الزاني لا يزنى إلا بزانية، فأيُّ فائدة في الإخبار بذلك؟! ولَمّا رأى الجمهورُ فسادَ هذا التأويل أعرضوا عنه».

<<  <  ج: ص:  >  >>