للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عائشة، ومَن صنع هذا اليوم في المسلمات فله ما قال الله، ولكن عائشة كانت إمام ذلك (١) [٤٦٢٠]. (ز)


[٤٦٢٠] اختلف في المعنيّ بهذه الآية على أقوال: الأول: إنّما ذلك لعائشة خاصة. الثاني: أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - خاصة. الثالث: نزلت هذه الآية في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أول السورة فأوجب الجلد، وقَبِل التوبة. الرابع: نزلت في شأن عائشة، وهي عامة.
ووجَّه ابنُ كثير (١٠/ ١٩٩) القول الأول بأنّ مراد قائليه: أنّ سبب النزول كان في عائشة دون غيرها، وإن كان الحكم يعمها وغيرها.
ورجَّح ابنُ جرير (١٧/ ٢٣٠) مستندًا إلى دلالة العموم القولَ الرابع الذي قاله ابن عباس من طريق ابن حَوْشَب، وميمون، وابن زيد، فقال: «لأنّ الله عَمَّ بقوله: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} كلَّ محصنة غافلة مؤمنة رماها رامٍ بالفاحشة، مِن غير أن يَخُصَّ بذلك بعضًا دون بعض، فكلُّ رامٍ محصنةً بالصِّفة التي ذكر الله -جلَّ ثناؤه- في هذه الآية فملعونٌ في الدنيا والآخرة، وله عذاب عظيم، إلّا أن يتوب مِن ذنبه ذلك قبل وفاته».
وكذا رجَّحه ابنُ كثير (١٠/ ٢٠٠) مستندًا إلى السنة، فقال: «وهو الصحيح، ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم ... » وساق حديث: «اجتنبوا السبع الموبقات» الوارد في الآثار المتعلقة بالآية.
وذكر ابنُ عطية (٦/ ٣٦٤ - ٣٦٥) أنّ اللعنة في هذه الآية: الإبعاد، وضرب الحدّ، واستيحاش المؤمنين منهم، وهجرهم لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة. ثم علَّق قائلًا: «وعلى مَن قال: إنّ هذه الآية خاصة لعائشة. تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أُبَيٍّ وأشباهه».
وعلَّق ابنُ تيمية (٤/ ٥٠٢ - ٥٠٣) على القول بالعموم بقوله: «هذا قول كثير من الناس، ووجه ظاهر الخطاب؛ فإنه عام، فيجب إجراؤه على عمومه، إذ لا مُوجِب لخصوصه، وليس هو مختصًّا بنفس السبب بالاتفاق؛ لأنّ حكم غير عائشة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - داخل في العموم، وليس هو من السبب، ولأنه لفظ جمع، والسبب في واحدة؛ ولأنّ قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل، فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك، وقد علم أن شيئًا منها لم يقصر على سببه. والفرقُ بين الآيتين أنّه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد ورد الشهادة والتفسيق، وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه، وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم. وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه وعن أصحابه أن قذف المحصنات من الكبائر، وفي لفظ في الصحيح: «قذف المحصنات الغافلات المؤمنات». وكان بعضهم يتأول على ذلك قوله: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات}». وذكر (٤/ ٤٩٧ - ٥٠٢) أنّ القول بخصوص الآية في عائشة وأزواج النبي يُؤَيِّده ما يلي: أولًا: أنّ ذلك إيذاء للنبي، ومعلوم أن إيذاءه نفاق، والمنافق يجب قتله إذ لم تقبل توبته، والله فرَّق بين إيذاء النبي وإيذاء غيره من المؤمنين فقال: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} [الأحزاب: ٥٧ - ٥٨]. ثانيًا: أنّ لعْنة الله في الدنيا والآخرة لا تُسْتَوْجَب بمجرد القذف؛ فتكون اللام في قوله: {المحصنات الغافلات المؤمنات} لتعريف المعهود، والمعهود هنا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّ الكلام في قصة الإفك ووقوع مَن وقع في أم المؤمنين عائشة، أو يقصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يُوجِب ذلك. ثالثًا: أنّ الله سبحانه رَتَّب هذا الوعيد على قَذْف محصنات غافلات مؤمنات، وقال في أول السورة: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} الآية. فرَتَّب الحدَّ وردّ الشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات، فلا بُدَّ أن يكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات؛ وذلك لأنّ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مشهود لهن بالإيمان؛ ولأنهن أمهات المؤمنين أزواج النبي في الدنيا والآخرة، وعوام المسلمات إنما يُعلَم منهنَّ في الغالب ظاهر الإيمان. رابعًا: أنّ الله سبحانه قال في قصة عائشة: {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم}، فتخصيصه متولي كبره دون غيره دليلٌ على اختصاصه بالعذاب العظيم، وقال: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم} فعُلِم أنّ العذاب العظيم لا يَمَسُّ كُلَّ مَن قذف، وإنّما يَمَسُّ مُتَوَلِّي كبرَه فقط، وقال هنا: {ولهم عذاب عظيم}، فعُلِم أنّ الذي رمى أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتولى كبر الإفك، وهذه صفة المنافق ابن أبي. وأورد إشكالًا على هذا القول حاصلُه: أنّه كان مِن أهل الإفك حمنة وحسان ومسطح، ولم يُرموا بنفاق، ولم يقتل النبي أحدًا بذلك السب، بل قد اختُلِف في جلدهم. وأجاب عليه: بأنّ هؤلاء لم يقصدوا إيذاء النبي، ولم يظهر منهم دليل على الرغبة في ذلك، بخلاف ابن سلول الذي قصد إيذاءه، ولم يكن معلومًا وقت الحادثة أنّ أزواج النبي في الدنيا أزواجه في الآخرة، فكان وقوع ذلك مِن أزواجه ممكنًا عَقْلًا، ولإمكان أن يُطَلِّق النبيُّ المرأة المقذوفة، فأمّا بعد العلم بأن زوجاته أمهات المؤمنين هُنَّ زوجاته أيضًا في الآخرة صار قذفُهُنَّ أذًى بكل حال لعدم جواز وقوع الفاحشة منهن؛ لامتناع أن يقيم النبيُّ مع بَغِيٍّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>