للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها}، قال: هؤلاء المشركون، حين حالوا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نَحَر هَدْيَه بذي طُوى، وهادنهم، وقال لهم: «ما كان أحد يُرَدُّ عن هذا البيت». وقد كان الرجل يلقى قاتلَ أبيه أو أخيه فيه فما يصده، وقالوا: لا يدخل علينا من قتلَ آباءَنا يوم بدر وفينا باقٍ. وفي قوله: {وسَعى فِي خَرابِها} قال: إذا قطعوا من يعمرها بذكره، ويأتيها للحج والعمرة (١) [٤٥١]. (١/ ٥٦٣) (ز)

٣٤٤٠ - عن أبي عثمان قاصِّ أهل الأردن -من طريق ضَمْرَة- {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها}، قال: خرابُها قتلُ أهلها (٢) [٤٥٢]. (ز)


[٤٥١] وجَّهَ ابن عطية (١/ ٣٢٦) هذا القول، فقال: «ومَن قال: هي بسبب المسجد الحرام. جَعَل مَنعَ عمارته خرابًا؛ إذ هو داعٍ إليه».
[٤٥٢] اختلف المفسرون في المراد بالذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعوا في خرابها، على قولين: الأول: هم النصارى، والمسجد بيت المقدس. والآخر: هم مشركو العرب، إذ منعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام.
ورجَّحَ ابن جرير (٢/ ٤٤٤ - ٤٤٥ بتصرف) القولَ الأولَ بدلالة العقلِ، والتاريخ، فقال: «وأَوْلى التأويلات بتأويل الآية أنه: عنى الله بقوله: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} النصارى، وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بختنصر على ذلك، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده، والدليل على صحة ما قلنا في ذلك قيامُ الحجةِ أن لا مسجد عنى الله - عز وجل - بقوله: {وسعى في خرابها} إلا أحد المسجدين؛ إما مسجد بيت المقدس، وإما المسجد الحرام، ومعلوم أن مشركي قريش كانوا مشتهرين بعمارة المسجد الحرام، ولم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام -وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول الله - عليه السلام - وأصحابه من الصلاة فيه-، فلم يبق إلا أن المراد النصارى، وأن المقصود تخريبهم بيت المقدس».
ورجَّحَ ابن كثير (٢/ ٢٥) القولَ الثاني بدلالة العقل والسّياق، فقال: «الذي يظهر -والله أعلم- القول الثاني، كما قاله ابن زيد، وروي عن ابن عباس -أن المراد بها المشركون؛ لأنهم حالوا بين رسول الله والمسجد الحرام-؛ لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس كان دينهم أقوم من دين اليهود، وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولًا إذ ذاك؛ لأنهم لعنوا من قبلُ على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، وأيضًا فإنه تعالى لَمّا وجَّه الذم في حق اليهود والنصارى؛ شَرَع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسولَ وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام».
وانتَقَدَ ابن جرير (٢/ ٤٤٥) القولَ الثاني بسياق الآيات، فقال: «الآية التي قبل قوله: {ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ} مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذمِّ أفعالهم، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم، ولم يجرِ لقريش ولا لمشركي العرب ذكرٌ، ولا للمسجد الحرام قبلها، فيوجه الخبر بقول الله - عز وجل -: {ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ} إليهم وإلى المسجد الحرام، وإذ كان ذلك كذلك فالذي هو أوْلى بالآيَة أن يوجه تأويلها إليه هو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها؛ إذ كان خبرها لخبرهما نظيرًا وشكلًا، إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك وإن اتفقت قصصها فاشتبهت».
وانتَقَدَ ابنُ كثير (٢/ ٢٥ - ٢٦ بتصرف) بدلالة العقل، والتاريخ ما رجَّحه ابن جرير، فقال: «أما اعتماده على أن قريشًا لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟! أخرجوا عنها رسول الله وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم، كما قال تعالى: {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون} [الأنفال: ٣٤]، وقال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون* إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة: ١٧ - ١٨]، وقال تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} [الفتح: ٢٥]، فقال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}، فإذا كان من هو كذلك مطرودًا منها مصدودًا عنها، فأي خراب لها أعظم من ذلك؟! وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك».

<<  <  ج: ص:  >  >>