ورجَّحَ ابنُ جرير (١٩/ ٥٩٨ - ٥٩٩) القولَ الأولَ استنادًا إلى دلالة القرآن، ونظائره، والدلالة العقلية، فقال: «هو إسحاق؛ لأن الله قال: {وفديناه بذبح عظيم} فذكر أنه فدى الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم حين سأله أن يهب له ولدًا صالحًا من الصالحين، فقال: {رب هب لي من الصالحين} فإذ كان المفدي بالذبح من ابنيه هو المبشر به، وكان الله -تبارك اسمه- قد بين في كتابه أن الذي بشر به هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فقال -جل ثناؤه-: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}، وكان في كل موضع من القرآن ذكر تبشيره إياه بولد، فإنما هو معنيّ به إسحاق، كان بيِّنًا أن تبشيره إياه بقوله: {فبشرناه بغلام حليم} في هذا الموضع نحو سائر أخباره في غيره من آيات القرآن». ورجَّحَ ابنُ عطية (٤/ ٦١١، ٧/ ٣٠١)، وكذا ابنُ تيمية (٥/ ٣٥٢ - ٣٥٣)، ومثلهما ابنُ كثير (٧/ ٤٥٣، ١٢/ ٣٧ - ٣٨) القولَ الثانيَ استنادًا إلى القرآن، والسنة، والدلالة العقلية، وانتَقَدَ الأخيران القول الأول بكلام طويل، ملخصه ما يلي:
١ - أنه بشره بالذبيح وذكر قصته أولًا، فلما استوفى ذلك قال: {وبشرناه بإسحاق نبيًا من الصالحين*وباركنا عليه وعلى إسحاق} فبين أنهما بشارتان: بشارة بالذبيح، وبشارة ثانية بإسحاق، وهذا بيِّنٌ.
٢ - أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إلا في هذا الموضع، وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة، ولم يذكر أنّه الذبيح، ثم لَمّا ذكر البشارتين جميعًا: البشارة بالذبيح، والبشارة بإسحاق بعده كان هذا مِن الأدلة على أنّ إسحاق ليس هو الذبيح.
٣ - أنه ذكر في الذبيح أنه غلام حليم، ولما ذكر البشارة بإسحاق ذكر البشارة بغلام عليم في غير هذا الموضع، والحلم مناسب للصبر الذي هو خلق الذبيح: {قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}، وإسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} [الأنبياء: ٨٥].
٤ - أنّ البشارة بإسحاق كانت مشتركة بين إبراهيم وامرأته، أما البشارة بالذبيح فكانت لإبراهيم - عليه السلام -، وامتحن بذبحه دون الأم المبشرة به، وهذ يوافق الأخبار الواردة في الصحيح وغيره أن سارة غارت لما ولدت هاجر إسماعيل، فذهب إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة، وهناك أُمِر بالذبح.
٥ - أن قرن الكبش كان معلقًا بالكعبة، ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة.
٦ - أن الله تعالى قال: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} [هود: ٧١]، والبشارة بيعقوب تقتضي أن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب، ولا خلاف بين الناس أنّ قصة الذبيح كانت قبل ولادة يعقوب، بل يعقوب إنما ولد بعد موت إبراهيم - عليه السلام - وقصة الذبيح كانت في حياة إبراهيم بلا ريب. ورَدَّ ابنُ جرير (١٩/ ٥٩٩ - ٦٠٠) عللًا مِمّا احتج بها مَن يقول: إن الذبيح هو إسماعيل - عليه السلام -، فقال: «أما الذي اعتل به من اعتل في أنه إسماعيل، أن الله قد كان وعد إبراهيم أن يكون له من إسحاق ابنُ ابنٍ، فلم يكن جائزًا أن يأمره بذبحه مع الوعد الذي قد تقدم. فإنّ الله إنما أمره بذبحه بعد أن بلغ معه السعي، وتلك حال غير منكر أن يكون قد ولد لإسحاق فيها أولاد، فكيف الواحد؟! وأما اعتلال مَن اعتل بأن الله أتبع قصة المفديِّ من ولد إبراهيم بقوله: {وبشرناه بإسحاق نبيا} ولو كان المفديّ هو إسحاق لم يبشر به بعد، وقد ولد وبلغ معه السعي. فإنّ البشارة بنبوة إسحاق من الله فيما جاءت به الأخبار جاءت إبراهيم وإسحاق بعد أن فُدِي تكرمة مِن الله له على صبره لأمرِ ربه فيما امتحنه به مِن الذبح، وقد تقدمت الرواية قبلُ عمَّن قال ذلك. وأما اعتلال من اعتل بأن قرن الكبش كان معلقًا في الكعبة. فغير مستحيل أن يكون حُمِل مِن الشام إلى مكة، وقد روي عن جماعة من أهل العلم أنّ إبراهيم إنما أمر بذبح ابنه إسحاق بالشام، وبها أراد ذبحه». وتعقَّب ابنُ كثير (١٢/ ٥١ - ٥٢ بتصرف) ذلك، فقال: «إنما عوَّل ابنُ جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم}، فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله تعالى: {وبشروه بغلام عليم}، وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم، بل هو بعيد جدًّا، والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى».