[٥٠٥] جمع ابنُ جرير (٢/ ٥٤١ - ٥٤٣) بين القول بأنّ مكة حرَّمها الله حِينَ خَلَقَها، وبين القول بأنّ الحرم صار حرمًا بتحريم إبراهيم له، بما حاصله: أنّ تحريم الله لها كان بمنعه من أرادها بسوء، وبدفعه عنها الآفات على وجه الكَلاءَة والحفظ لها، وأنّ تحريم إبراهيم كان بسؤاله ربِّه إيجابَ فرض تحريمها على عباده، فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم - عليه السلام -؛ لكون إيجاب تحريمها على العباد كان بسؤاله ربه ذلك. وبيَّنَ أنّ هذا الوجه به تجتمع الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نسبة التحريم إلى الله تارة، وإلى إبراهيم - عليه السلام - تارة أخرى. وقد جمع ابنُ عطية (١/ ٣٤٦ - ٣٤٧ بتصرف) بينهما بنحو قول ابن جرير، فقال: «واختُلِف في تحريم مكة متى كان؟ فقالت فرقة: جعلها الله حرامًا يوم خلق السموات والأرض. وقالت فرقة: حَرَّمها إبراهيم. والأول قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته ثاني يوم الفتح، والثاني قاله أيضًا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيح عنه: «اللهم، إنّ إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها حرام». ولا تعارض بين الحديثين؛ لأنّ الأول إخبارٌ بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها، وإظهاره ذلك بعد الدُّثُور، وكلُّ مقال من هذين الإخبارين حَسَنٌ في مقامه، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالًا لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضًا من قِبَلِ الله تعالى، ومن نافذ قضائه وسابق علمه».