وقد ذكر ابنُ عطية (٨/ ٨٢) القول الأول، وعلّق عليه، فقال: «قال ابن عباس وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -: المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي، وليُقِرّوا لي بالعبودية، فعبّر عن ذلك بقوله: {ليعبدون} إذ العبادة هي مضمون الأمر». وعلّق على القول الرابع بقوله: «ويؤيد هذا التأويل أن ابن عباس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ: (وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ مِنَ المُؤْمِنِينَ إلّا لِيَعْبُدُونِي)». وعلّق ابنُ تيمية (٦/ ١١٦) على القولين الأول والثالث، فقال: «فعلى هذه الأقوال أن جميع الإنس والجن عبدوه وعرفوه ووحّدوه وأقرُّوا له بالعبودية طوعًا وكرهًا». ولم يذكر ابنُ جرير غير القولين الأولين، ثم رجّح (٢١/ ٥٥٥) القول الأول مستندًا إلى الدلالة العقلية، فقال: «وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرنا عن ابن عباس، وهو: ما خلقت الجن والإنس إلا لعبادتنا، والتذلل لأمرنا. فإن قال قائل: فكيف كفروا وقد خلقهم للتذلل لأمره؟ قيل: إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم؛ لأن قضاءه جارٍ عليهم، لا يقدرون من الامتناع منه إذا نزل بهم، وإنما خالفه مَن كفر به في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه». وأورد ابنُ تيمية (٦/ ١١٧) توجيه ابن جرير لترجيحه، ونسَبه للثعلبي، ثم انتقده مستندًا إلى الدلالة العقلية، وظاهر القرآن، والسياق، فقال: «وهذا المعنى -وإن كان في نفسه صحيحًا، وقد نازعت القدرية في بعضه- فليس هو المراد بالآية، فإن جميع المخلوقات -حتى البهائم والجمادات- بهذه المنزلة. وأيضًا فالعبادة المذكورة في عامة المواضع في القرآن لا يراد بها هذا المعنى. وأيضًا فإن قوله: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} دليل على أنه خلقهم ليعبدوه، لا ليرزقوا ويُطعموا، بل هو المُطعم الرازق، وإطعامه لهم ورزقه إياهم هو من جملة تدبيرهم وتصريفهم، الذي قد جعله أهل هذا القول عبادةً له، فتكون العبادة التي خُلقوا لها كونهم مرزوقين مُدبَّرين، وهذا باطل. وأيضًا فقوله: {ليعبدون} يقتضي فعلًا يفعلونه هم، وكونه يربّيهم ويخلقهم ليس فيه إلا فِعله فقط، ليس في ذلك فعل لهم». وانتقد كذلك القول الرابع، فقال: «ويلي هذا القول في الضعف قول مَن يقول: إن الآية خاصة فإنه هذه أقوال ضعيفة».وذكر ابنُ عطية في الآية احتمالًا آخر، فقال: «وتحتمل الآية أن يكون المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا مُعدّين ليعبدون». وعلّق عليه بقوله: «وكأن الآية تعديد نعمة، أي: خلقت لهم حواس وعقولًا وأجسامًا منقادة نحو العبادة، وهذا كما تقول: البقر مخلوقة للحرْث، والخيل للحرب، وقد يكون منها ما لا يُحارب به أصلًا، فالمعنى: أن الإعداد في خلْق هؤلاء إنما هو للعبادة، لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك، ويؤيد هذا المنزع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اعملوا فكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلق له». وقوله: «كلّ مولود يولد على الفطرة»».