وذكر ابنُ عطية (٨/ ٢٤٠) أن مجاهدًا قال: المعنى: كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله. وعلَّق عليه بقوله: «فـ» كتب «-على هذا- بمعنى: قضى». وانتقد ابنُ القيم القول الأول مستندًا للغة، وظاهر لفظ الآية، فقال: «وهذا فاسد، فإنه لم يكتبها عليهم سبحانه، كيف وقد أخبر: أنهم هم ابتدعوها؟ فهي مبتدعة غير مكتوبة». وبيّن أنّ قوله تعالى: {إلا ابتغاء ... } على هذا يكون مفعولًا لأجله. وعلَّق عليه بقوله: «المفعول لأجله يجب أن يكون علة لفعل الفاعل المذكور معه. فيتّحد السبب والغاية، نحو: قمت إكرامًا. فالقائم هو المكرم. وفعل الفاعل هاهنا هو» الكتابة «، و {ابتغاء رضوان الله} فِعْلهم لا فعل الله؛ فلا يصلح أن يكون عِلّة لفعل الله، لاختلاف الفاعل». وبنحوه ابنُ تيمية (٦/ ٢٣٤ - ٢٣٥)، وزاد فقال: «تخصيص الرّهبانيّة بأنه كتبها ابتغاء رضوان الله دون غيرها تخصيص بغير موجب، فإنّ ما كتبه ابتداء لم يذكر أنه كتبه ابتغاء رضوانه؛ فكيف بالرّهبانيّة؟!». وانتقد ابنُ تيمية (٦/ ٢٣٥) القول الثاني مستندًا لظاهر الآية، واللغة، فقال: «وأما قول مَن قال: ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله. فهذا المعنى لو دل عليه الكلام لم يكن في ذلك مدحٌ للرّهبانيّة، فإنّ مَن فعل ما لم يأمر الله به بل نهاه عنه مع حُسن مقصده غايته أن يُثاب على قصده، لا يثاب على ما نُهي عنه، ولا على ما ليس بواجب ولا مستحبّ، فكيف والكلام لا يدل عليه، فإنّ الله قال: {ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله} ولم يقل: ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله، ولا قال: ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله. ولو كان المراد: ما فعلوها أو ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله؛ لكان منصوبًا على المفعولية، ولم يتقدم لفظ الفعل ليعمل فيه، ولا نفى الابتداع، بل أثبته لهم، وإنما تقدم لفظ الكتابة». وذكر ابنُ القيم (٣/ ١٣٣) أنه على هذا القول فقوله: {إلا ابتغاء رضوان الله} منصوب على أنه بدل من مفعول {ما كتبناها}، وانتقده مستندًا إلى اللغة، فقال: «وهو فاسد؛ إذ ليس ابتغاء رضوان الله عين الرّهبانيّة، فتكون بدل الشيء من الشيء. ولا بعضها، فتكون بدل بعض من كلّ، ولا أحدهما مشتمل على الآخر؛ فتكون بدل اشتمال، وليس بدل غلط». وذكر ابنُ تيمية (٦/ ٢٣٣) أن البعض قال: قوله تعالى: {ورهبانية ابتدعوها} عطف على {رأفة}، {ورحمة}، وأنّ المعنى: أنّ الله جعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية أيضًا ابتدعوها، وجعلوا الجعْل شرعيًا ممدوحًا «. وانتقده مستندًا للدلالة العقلية، والواقع، فقال:» هذا غلط لوجوه. منها: أنّ الرّهبانيّة لم تكن في كلّ مَن اتبعه، بل الذين صحبوه كالحواريين لم يكن فيهم راهب وإنما ابتُدعت الرّهبانيّة بعد ذلك بخلاف الرأفة والرحمة، فإنها جُعلت في قلب كلّ مَن اتبعه. ومنها: أنه أخبر أنهم ابتدعوا الرّهبانيّة بخلاف الرأفة والرحمة، فإنهم لم يبتدعوها وإذا كانوا ابتدعوها لم يكن قد شرعها لهم، فإن كان المراد هو الجعل الشرعي الديني لا الجعل الكوني القدري فلم تدخل الرّهبانيّة في ذلك، وإن كان المراد الجعل الخلقي الكوني فلا مدح للرّهبانيّة في ذلك. ومنها: أنّ الرأفة والرحمة جعلها في القلوب والرّهبانيّة لا تختص بالقلوب، بل الرّهبانيّة ترك المباحات من النكاح واللحم وغير ذلك «. وساق ابنُ عطية احتمالًا آخر، فقال:» ويحتمل اللفظ أن يكون المعنى: ما كتبناها عليهم إلا في عموم المندوبات؛ لأن ابتغاء مرضاة الله بالقُرَب والنوافل مكتوب على كلّ أُمّة «. وعلَّق عليه بقوله:» فالاستثناء -على هذا الاحتمال- متصل". ورجَّح ابنُ تيمية (٦/ ٢٣٥) -مستندًا إلى الدلالة العقلية- أنّ قوله تعالى: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا رضوان الله} منصوب نصب الاستثناء المنقطع، أي: وابتدعوا رهبانيةً ما كتبناها عليهم، لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. فقال: «فإنّ إرضاء الله واجب مكتوب على الخلْق، وذلك يكون بفعل المأمور وبترك المحظور، لا بفعل ما لم يأمر بفعله وبترك ما لم ينه عن تركه، والرّهبانيّة فيها فعل ما لم يؤمر به وترك ما لم ينه عنه». ورجَّحه ابنُ القيم (٣/ ١٣٣ - ١٣٤) مستندًا إلى السياق، فقال: «فالصواب: أنه منصوب نصب الاستثناء المنقطع ... ودلّ على هذا قول: {ابتدعوها}».