فلمّا بلغ كتابُهم اليهودَ اجتمعت بنو النَّضِير بالغَدر، فأَرسَلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: اخرج إلينا في ثلاثين رجلًا مِن أصحابك، وليَخرج إليك منّا ثلاثون حَبْرًا حتى نلتقي بمكانٍ نَصَفٍ بيننا وبينك، ويَسمعوا منك، فإن صدَّقوك وآمنوا بك آمنّا كلُّنا. فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين مِن أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حَبْرًا مِن اليهود، حتى إذا بَرزوا في بَرازٍ من الأرض قال بعضُ اليهود لبعض: كيف تَخلُصُون إليه ومعه ثلاثون رجلًا مِن أصحابه، كلّهم يحبُّ أن يموت قبله؟ فأرسَلوا: كيف نَفهَم ونحن ستون رجلًا؟! اخرج في ثلاثة مِن أصحابك، ويَخرج إليك ثلاثةٌ مِن علمائنا فليسمَعوا منك، فإنْ آمنوا بك آمنّا كلّنا وصدّقناك. فخرج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة مِن أصحابه، وخرج ثلاثة من اليهود، واشتملوا على الخناجر، وأرادوا الفَتْكَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسَلَت امرأةٌ ناصِحةٌ مِن بني النَّضِير إلى أخيها، وهو رجل مسلم مِن الأنصار، فأخبَرتْه خبرَ ما أراد بنو النَّضر مِن الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أخوها سريعًا حتى أدرك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فسارّه بخبرهم قبل أن يَصِل إليهم، فرجع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. فلمّا كان الغدُ غَدا عليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالكتائب، فحَصَرهم، فقال لهم:«إنكم -واللهِ- لا تَأمَنُون عندي إلا بعهدٍ تُعاهِدُونني عليه». فأَبَوا أن يُعطوه عهدًا، فقاتلهم يومَه ذلك هو والمسلمون، ثم غدا الغد على بني قُرَيظة بالكتائب، وترك بني النَّضِير، ودعاهم إلى أن يُعاهِدوه، فعاهَدوه، فانصرف عنهم، وغدا إلى بني النَّضِير بالكتائب، فقاتَلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أنّ لهم ما أقَلَّتِ الإبلُ إلا الحَلْقَة -والحَلْقَة: السلاح-، فجَلَتْ بنو النَّضِير، واحتَملوا ما أقَلّتِ الإبلُ مِن أمتعتهم، وأبواب بيوتهم وخَشَبها، فكانوا يُخْرِبون بيوتَهم، فيهدمونها، فيَحْتملون ما وافقهم مِن خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أولَ حَشْر الناس إلى الشام، وكان بنو النَّضِير مِن سِبطٍ من أسباط بني إسرائيل لم يُصبهم جلاءٌ منذ كَتب الله على بني إسرائيل الجلاء؛ فلذلك أجْلاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلولا ما كَتب الله عليهم مِن الجلاء لعذَّبهم في الدنيا كما عُذِّبتْ بنو قُرَيظة؛ فأنزل الله:{سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأَرْضِ} حتى بلغ: {واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فكان نخيل بني النَّضِير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فأعطاه الله إيّاها، وخصّه بها، فقال:{وما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنهُمْ فَما أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِن خَيْلٍ ولا رِكابٍ} يقول: بغير قتال، فأعطى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أكثرَها المهاجرين، وقَسَمها بينهم، وقَسَم منها لرجلين من الأنصار كانا ذوي حاجة، لم يَقْسم لأحد مِن الأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -