للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الدنيا بالمعاصي، تَنصَب في النار يوم القيامة (١) [٧١٤١]. (١٥/ ٣٨٢)


[٧١٤١] اختُلف في معنى: {عامِلَةٌ ناصِبَةٌ} على أقوال: الأول: عاملة في النار ناصبة فيها. الثاني: عاملة في الدنيا ناصبة فيها، والآية في القِسِّيسين، وعباد الأوثان، وكلّ مَن اجتهد في كُفر. الثالث: عاملة في الدنيا ناصبة يوم القيامة.
ووجَّه ابنُ عطية (٨/ ٥٩٦) القول الثالث بقوله: «فالعمل -على هذا- هو مساعي الدنيا».
ورجَّح ابنُ تيمية (٧/ ٥) -مستندًا إلى اللغة، والدلالة العقلية، والنظائر- القول الأول، فقال: «هذا هو الحق لوجوه: أحدها: أنه على هذا التقدير يتعلق الظرف بما يليه، أي: وجوه يوم الغاشية خاشعة عاملة ناصبة صالية، وعلى الأولى لا يتعلق إلا بقوله: {تصلى}، ويكون قوله: {خاشعة} صفة للوجوه، قد فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي متعلّق بصفة أخرى متأخرة، والتقدير: وجوه خاشعة عاملة ناصبة يومئذٍ تصلى نارًا حامية، والتقديم والتأخير على خلاف الأصل؛ فالأصل إقرار الكلام على نظْمه وترتيبه لا تغيير ترتيبه، ثم إنما يجوز فيه التقديم والتأخير مع القرينة، أما مع اللبس فلا يجوز؛ لأنه يلتبس على المخاطب، ومعلوم أنه ليس هنا قرينة تدل على التقديم والتأخير، بل القرينة تدل على خلاف ذلك، فإرادة التقديم والتأخير بمثل هذا الخطاب خلاف البيان، وأمْر المخاطب بفهمه تكليف لما لا يطاق. الوجه الثاني: أنّ الله قد ذكر وجوه الأشقياء ووجوه السعداء في السورة، فقال بعد ذلك: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ}، ومعلوم أنه إنما وصفها بالنعمة يوم القيامة لا في الدنيا؛ إذ هذا ليس بمدح، فالواجب تشابه الكلام وتناظر القسمين، لا اختلافهما، وحينئذ فيكون الأشقياء وُصفتْ وجوههم بحالها في الآخرة. الثالث: أنّ نظير هذا التقسيم قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إلى رَبِّها ناظِرَةٌ ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ} [القيامة: ٢٢ - ٢٥]، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ} [عبس: ٣٨ - ٤٢]، وهذا كله وصفٌ للوجوه لحالها في الآخرة لا في الدنيا. الرابع: أنّ وصف الوجوه بالأعمال ليس في القرآن، وإنما في القرآن ذِكْر العلامة، كقوله: {سِيمِاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: ٢٩]، وقوله: {ولَوْ نَشاءُ لأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ} [محمد: ٣٠]، وقوله: {وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا المُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا} [الحج: ٧٢]، وذلك لأنّ العمل والنَّصَب ليس قائمًا بالوجوه فقط؛ بخلاف السيما والعلامة. الخامس: أنّ قوله: {خاشِعَةً عامِلَةٌ ناصِبَةٌ} لو جُعل صفة لهم في الدنيا لم يكن في هذا اللفظ ذم، فإنّ هذا إلى المدح أقرب، وغايته أنه وصفٌ مشترك بين عُبّاد المؤمنين وعُبّاد الكفار، والذم لا يكون بالوصف المشترك، ولو أُريد المختص لقيل: خاشعة للأوثان -مثلًا-، عاملة لغير الله، ناصبة في طاعة الشيطان. وليس في الكلام ما يقتضي كون هذا الوصف مختصًّا بالكفار، ولا كونه مذمومًا، وليس في القرآن ذمٌّ لهذا الوصف مطلقًا، ولا وعيد عليه، فحمْله على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن. السادس: أنّ هذا الوصف مختص ببعض الكفار، ولا موجب للتخصيص، فإنّ الذين لا يتعبّدون من الكفار أكثر، وعقوبة فُسّاقهم في دينهم أشد في الدنيا والآخرة، فإنّ مَن كفَّ منهم عن المحرمات المتفق عليها، وأدّى الواجبات المتفق عليها لم تكن عقوبته كعقوبة الذين يدعون مع الله إلهًا آخر، ويقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ويَزْنُون. فإذا كان الكفر والعذاب على هذا التقدير في القسم المتروك أكثر وأكبر؛ كان هذا التخصيص عكس الواجب. السابع: أنّ هذا الخطاب فيه تنفير عن العبادة والنُّسك ابتداء، ثم إذا قُيِّد ذلك بعبادة الكفار والمبتدعة -وليس في الخطاب تقييد- كان هذا سعيًا في إصلاح الخطاب بما لم يُذكر فيه».

<<  <  ج: ص:  >  >>