يا صباحاه، أتتكم السّودان معها فيلها، يريدون أن يهدموا كعبتكم، ويدعوا عِزّكم، ويبيحوا دماءكم، وينتهبوا أموالكم، ويستأصلوا بيضتكم، فالنّجاء النّجاء. ثم قصد إلى عبد المُطَّلِب، فأخبره بالأمر كلّه، فركب عبد المُطَّلِب فرسه، ثم أمعن جادًّا في السير حتى هجم على عسكر القوم، فاستفتح له أبْرَهَة بن الصباح، وحجر بن شراحيل، وكانا خِلَّيْن، فقالا لعبد المُطَّلِب: ارجع إلى قومك، فأخبِرهم وأنذِرهم أنّ هذا قد جاءكم حميًا آتيًا. فقال عبد المُطَّلِب: واللّات والعُزّى، لا أرجع حتى أرجع معي بخيلي ولقاحي. فلما عرفا أنه غير راجع ونازع عن قوله قصدا به إلى النّجاشي، فقالا كهيئة المستهزئين يستهزئان به: أيها الملك، اردد عليه إبله وخيله، فإنما هو وقومه لك بالغداة. فأمر بردّها، فقال عبد المُطَّلِب للنّجاشي: هل لك إلى أنْ أُعطيك أهلي ومالي، وأهل قومي، وأموالهم ولقاحهم؛ على أن تنصرف عن كعبة الله؟ قال: لا. فسار عبد المُطَّلِب بإبله وخيله حتى أحرزها، ونزل النّجاشي ذا المجاز موضع سوق الجاهلية، ومعه من العدد والعُدّة كثير، وانذعرتْ قريش، وأعروا مكة، فلحقوا بجبل حراء وثبير وما بينها من الجبال، وقال عبد المُطَّلِب لقريش: واللّات والعُزّى، لا أبرح البيت حتى يقضي الله قضاءه، فقد نبّأني أجدادي أنّ للكعبة ربًّا يمنعها، ولن تغلب النصرانية، وهذه الجنود جنود الله. وبمكة يومئذ أبو مسعود الثقفي جدّ المختار، وكان مكفوف البصر، يقيظ بالطائف، ويشتو بمكة، وكان رجلًا نبيلًا، تستقيم الأمور برأيه، وهو أول فاتق، وأول راتق، وكان خِلًّا لعبد المُطَّلِب، فقال له عبد المُطَّلِب: يا أبا مسعود، ماذا عندك، هذا يوم لا يُستغنى عن رأيك؟ قال له أبو مسعود: اصعد بنا الجبل حتى نتمكّن فيه. فصعدا الجبل، فتمكّنا فيه، فقال أبو مسعود لعبد المُطَّلِب: اعمد إلى ما ترى مِن إبلك فاجعلها حرمًا لله، وقلِّدها نعالًا، ثم أرسِلها في حَرم الله، فلعلّ بعض هؤلاء السّودان أن يعقروها، فيغضب ربّ هذا البيت، فيأخذهم عند غضبه. ففعل ذلك عبد المُطَّلِب، فعمد القوم إلى تلك الإبل، فحملوا عليها، وعقروا بعضها، فقال عبد المُطَّلِب عند ذلك-وهو يبكي-:
يا ربّ إن العبد يمنع رَحله فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم ومحالهم عدوًا محالك
فإن كنتَ تاركهم وكعبتنا فأمرٌ ما بدا لك
فلم أسمع بأرجس من رجال أرادوا العِزّ فانتهكوا حرامك