كما يلاحظ أنهم لم يرفعوا هذه القصة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا يشعر بأنهم مما تلقوه عن غيره. ولا ضير في حمل هذه الآية على هذه القصة التي هي تمثيل للمعنى الوارد في الآية، قال ابن كثير (ت: ٧٧٤ هـ): "وقد ذكر بعضهم ههنا قصة لبعض عُباد بني إسرائيل؛ هي كالمثال لهذا المثل، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها"(١).
ولا يقال في مثل هذا المقام: إن هذه إسرائيلية فلا تقبل؛ لأن المعنى الذي تحمله هذه الإسرائيلية ليس غريبًا، ولا نكارة فيه توجب ردّه، وما دام الأمر كذلك، فإنه يفسر بها، ويوضح المعنى كما يوضح بغيرها، واللَّه أعلم.
وكثرت رواية القصص المجملة في القرآن في طبقة التابعين وأتباع التابعين، وإن كان بعض مفسريهم أقل من بعض، لكن الحكم هنا عن جملة المروي عنهم من تفاصيل قصص الآي.
ومما يلاحظ في بعض المروي عنهم أنه مليء بالغرائب، خصوصًا ما يرد عن السدي (ت: ١٢٧ هـ)، وابن إسحاق (ت: ١٥٠ هـ)، ووهب بن منبه (ت: ١١٤ هـ)، والكلبي (ت: ١٤٦ هـ)، ومقاتل بن سليمان (ت: ١٥٠ هـ).
والأمثلة في هذا كثيرة، وسردها يطول، لكن اكتفي بمثال في هذا المقام، وهو ما ورد عنهم في تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: ٢٣ - ٢٤]:
قال ابن جريج: حجرًا كان لا يطيقه إلا عشرة رهط.
قال شريح: انتهى إلى حجر لا يرفعه إلا عشرة رجال، فرفعه وحده.
قال السدي: رحمهما موسى حين {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} فأتى إلى البئر فاقتلع صخرة على البئر كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها، حتى يرفعوها، فسقى لهما موسى دلوًا فأروتا غنمهما، فرجعتا سريعًا، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض.
(١) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: سامي السلامة ٨/ ٧٥.