للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

كما أنها أجل غاية حملت العلماء على جمع واستيعاب أقوال السلف، وتفهمها وتوجيهها، وفحصها ونقدها.

ومن جليل ما يتنبه إليه هنا: أن تعظيم هؤلاء الأئمة للسلف، والاستدلال بآثارهم، واعتقاد تقدمهم على من بعدهم في كل علم ودين ليس أثرًا من الإيمان بالنصوص الموجبة لذلك فحسب؛ وإنما جاء نابعًا أيضًا من مقتضيات ومزايا توفرت لعلومهم ولم تتوفر لمن بعدهم، أو لم تكن فيمن بعدهم كما كانت فيهم؛ كمعاصرة النزول، ومشاهدة قرائن التنزيل، وسليقية اللغة، وشدة حرصهم على تعرف ألفاظ القرآن ومعانيه، ونحو ذلك. فدلالة العقل، ومقتضى الفطرة، والعادة المطردة أيدت مقتضى النصوص في تقرير هذا الأصل العلمي المنهجي، ومن نقول الأئمة في بيان ذلك قول ابن تيمية (ت: ٧٢٨ هـ): "التفسير الثابت عن الصحابة والتابعين إنما قبلوه لأنهم قد علموا أن الصحابة بلغوا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لفظ القرآن ومعانيه جميعًا، كما ثبت ذلك عنهم، مع أن هذا مما يعلم بالضرورة عن عادتهم؛ فإن الرجل لو صنف كتاب علم في طب أو حساب أو غير ذلك، وحفظه تلامذته، لكان يعلم بالاضطرار أن هممهم تشوق إلى فهم كلامه ومعرفة مراده، وأن بمجرد حفظ الحروف لا تكتفي به القلوب، فكيف بكتاب اللَّه الذي أمر ببيانه لهم، وهو عصمتهم، وهداهم، وبه فرق اللَّه بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وقد أمرهم بالإيمان بما أخبر به فيه، والعمل بما فيه، وهم يتلقونه شيئًا بعد شيء، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} الآية [الفرقان: ٣٢]، وقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: ١٠٦]، وهل يتوهم عاقل أنهم كانوا إنما يأخذون منه مجرد حروفه وهم لا يفقهون ما يتلوه عليهم، ولا ما يقرؤونه، ولا تشتاق نفوسهم إلى فهم هذا القول، ولا يسألونه عن ذلك، ولا يبتدئ هو بيانه لهم! ! هذا مما يعلم بطلانه أعظم مما يعلم بطلان كتمانهم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله" (١)، وقال: "بل من المعلوم أن رغبة الرسول في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه؛ فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود، إذ اللفظ إنما يراد للمعنى" (٢)، وقال أيضًا: "من المحال أن تكون القرون الفاضلة؛ القرن الذي بعث فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،


(١) بغية المرتاد ص ٣٣٠.
(٢) مجموع الفتاوى ٥/ ١٥٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>