للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ومعانيه جميعًا، كما ثبت ذلك عنهم، مع أن هذا مما يعلم بالضرورة عن عادتهم؛ فإن الرجل لو صنف كتاب علم في طب أو حساب أو غير ذلك، وحفظه تلامذته، لكان يعلم بالاضطرار أن هممهم تشوق إلى فهم كلامه ومعرفة مراده، وأن بمجرد حفظ الحروف لا تكتفي به القلوب، فكيف بكتاب اللَّه الذي أمر ببيانه لهم، وهو عصمتهم، وهداهم، وبه فرق اللَّه بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وقد أمرهم بالإيمان بما أخبر به فيه، والعمل بما فيه، وهم يتلقونه شيئًا بعد شيء، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} الآية [الفرقان: ٣٢]، وقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: ١٠٦]، وهل يتوهم عاقل أنهم كانوا إنما يأخذون منه مجرد حروفه وهم لا يفقهون ما يتلوه عليهم، ولا ما يقرؤونه، ولا تشتاق نفوسهم إلى فهم هذا القول، ولا يسألونه عن ذلك، ولا يبتدئ هو بيانه لهم! ! هذا مما يعلم بطلانه أعظم مما يعلم بطلان كتمانهم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله" (١).

وبيَّن ذلك من جهة العقل والفطرة أيضًا فقال: "من المحال أن تكون القرون الفاضلة؛ القرن الذي بعث فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق، وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع؛ أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة، وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب، والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه. .، وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة، في مجموع عصورهم، هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضًا عن اللَّه، وأعظمهم إكبابًا على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر اللَّه تعالى، فكيف يقع في أولئك! وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلم، ولا عاقل عرف حال القوم" (٢).

ثم بيَّن اللوازم الباطلة المترتبة على القول بجهل الصحابة ببعض معاني القرآن


(١) بغية المرتاد ص ٣٣٠.
(٢) مجموع الفتاوى ٧/ ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>