للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لا أنه كذب في نفس الأمر، لجواز صدق الكاذب، وإصابة من هو كثير الخطأ" (١).

وهذا تقرير لحقيقة غابت عن كثير من التطبيقات المعاصرة؛ وهي أن أبواب الإعلال ونقد الروايات -وإن كان لها أصول تجري عليها وأطر تضبطها- إلا أنها لا تجري على سَنَنٍ واحد؛ بل تتفاوت درجات إعمالها وآليات توظيفها تفاوتًا بَيِّنًا بحسب كل رواية، لكون منهج نقد الأخبار متشعب المسالك مترامي الأطراف معقد التفاصيل بعيد الغور دقيق المسلك، إذ يبلغ من قمة الظهور أحيانًا ما يحسب معه الناظر أن ليس هناك خفاء، ويبلغ من قمة الوعورة والدقة والخفاء أحيانًا ما يظن معه أن ليس معه ظهور، وإنما مرد ذلك إلى كون النقاد يتعاملون مع كل رواية بحسبها وحسب قدرها وأثرها ومضمونها وما احتف بها، وقد عبَّر عن هذا المعنى عدد من العلماء؛ فقد نقل الزركشي عن ابن دقيق العيد قوله: ". . . وأما أهل الحديث؛ فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول ثم تقوم لهم علل فيه تمنعهم من الحكم بصحته كمخالفة جمع كثير له أو من هو أحفظ منه، أو قيام قرينة تؤثر في أنفسهم غلبة الظن بغلطِهِ، ولم يجر ذلك على قانون واحد يستعمل في جميع الأحاديث" (٢)، وقال ابن تيمية: "ولكل حديث ذوو، ويختص بنظر ليس للآخر" (٣)، وقال ابن رجب: "ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه" (٤).

ومقصود هذه العبارات: أن المعيار الذي عليه مدار قبول الرواية أو ردِّها لا يجري على نسق واحد، ولا ينحصر في قالب بعينه، ولا يتشكل على هيئة واحدة؛ ذلك أن هذا المعيار يتفاوت صعودًا ونزولًا تشددًا وتساهلًا قبولًا وردًّا بحسب كل حالة ورواية، وتكمن مهارة الناقد وحذقه ونفوذ بصره في قدرته على استخدام هذا المعيار مع كل رواية بحسبها، فهو كالطبيب الحاذق يقلب جسد الرواية، ويستكشف أعراضها وينظر في مساراتها وارتباطاتها، وعلاقاتها ومسبباتها حتى يحسن تشخيص حال الرواية؛ بل حال كل أجزائها ومكوناتها، فيميز صحيحها من سقيمها، ويعرف مقدار تفاوتها في الصحة أو السقم، ويحدد حجم السقم ونوعه وأثره وسببه؛ فيعطي


(١) البحر الذي زخر شرح ألفية الأثر ١/ ٢٩٧.
(٢) النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي ١/ ١٠٥.
(٣) مجموع الفتاوى ١٨/ ٤٧.
(٤) شرح علل الترمذي ٢/ ٥٨٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>