وقد رجَّح ابنُ جرير (٨/ ٧٠٤) مستندًا إلى الدلالة العقلية القولَ بالتخيير، فقال: «وأَوْلى الأقوال بالصواب عندي في قوله: {أوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيامًا} أن يكون تخييرًا، وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره بِقَتْلِه الصيد وهو مُحْرِم بأيِّ هذه الكفارات الثلاث شاء؛ لأن الله -تعالى ذكره- جعل ما أوجب في قَتْلِ الصيد من الجزاء والكفارة عقوبةً لفعله، وتكفيرًا لذنبه، في إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حرامًا عليه إتلافه في حال إحرامه، وقد كان حلالًا له قبل حال إحرامه، كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حَلَقَه المُحْرِم في حال إحرامه، وقد كان له حَلْقُه قبل حال إحرامه، ثم مُنِعَ من حَلْقِه في حال إحرامه نظير الصيد، ثم جُعِلَ عليه إن حَلَقَه جزاءٌ من حَلْقِه إيّاه، فأجمع الجميع على أنه في حَلْقِه إيّاه إذا حَلَقَه من أذاته مخيَّرٌ في تكفيره فعله ذلك بأيِّ الكفارات الثلاث شاء، فمثله فيما ناله إن شاء الله قاتل الصيد من المحرمين، وأنه مخيَّرٌ في تكفيره قَتْلَه الصيد بأي الكفارات الثلاث شاء، لا فرق بَيْن ذلك».المسألة الثانية: اختلافهم في صفة التقويم إذا أراد التكفير بالإطعام، وقد ذكر ابنُ جرير قولين في صفته: الأول: يُقَوَّم الصيد قيمة الموضع الذي أصابه فيه. الثاني: يُقَوَّم الصيد بسعر الأرض التي يُكَفَّر بها. ثم رجَّح (٨/ ٧٠٥) القولَ الأولَ مستندًا إلى ظاهر لفظ الآية، فقال: «والصواب من القول في ذلك عندنا: أنّ قاتل الصيد إذا جزاه بِمِثْلِه من النَّعَم فإنما يَجْزِيه بنظيره في خَلْقٍ وقَدْرِه في جسمه من أقرب الأشياء به شبهًا من الأنعام، فإذا جزاه بالإطعام قوَّمه قيمته بموضعه الذي أصابه فيه؛ لأنه هنالك وجب عليه التكفير بالإطعام، ثم إن شاء أطعم بالموضع الذي أصابه فيه، وإن شاء بمكة، وإن شاء بغير ذلك من المواضع حيث شاء؛ لأن الله تعالى إنما شرط بلوغ الكعبة بالهدي في قتل الصيد دون غيره من جزائه، فللجازي بغير الهدي أن يَجْزيَه بالإطعام والصوم حيث شاء من الأرض». ثم ذكر قولًا ثالثًا في المسألة، وهو: لا يُجْزِئ الهَدْيُ والإطعام إلا بمكة، فأما الصوم فإن كفَّر به يصوم حيث شاء من الأرض. واستشهد له بآثارٍ عن السلف، ثم علَّق عليه، فقال (٨/ ٧٠٧): «فأما الهدي فإنّه مَن جزى به ما قَتَل من الصيد، فلن يَجْزِيَه من كفّارة ما قَتَل من ذلك إلا أن يُبْلِغَه الكعبة طيِّبًا، كما قال -تعالى ذكره-، وينحره أو يذبحه، ويتصدق به على مساكين الحَرَم. وعنى بالكعبة في هذا الموضع: الحَرَم كلَّه. ولمن قَدِم بهَدْيِه الواجب من جزاء الصيد أن ينحره في أيِّ وقت شاء، قبل يوم النحر وبعده، ويُطْعِمَه، وكذلك إن كفَّر بإطعامٍ فله أن يُكفِّر به متى أحبَّ، وحيث أحبَّ، وإن كفَّر بالصوم فكذلك».