ورجَّح ابنُ جرير (٩/ ٢٣) مستندًا إلى أقوال السلف أنَّه «نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل، كمسألة ابن حذافة إياه: مَن أبوه؟ ومسألة سائله -إذ قال: «إن الله فرض عليكم الحج» -: أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل». وهو قول أبي هريرة، وأنس وما في معناه، وعلَّل ذلك بقوله: «لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة، والتابعين، وعامة أهل التأويل». وبيَّن ابنُ جرير بأن القول الذي رواه ابن عباس من طريق خصيف عن مجاهد -وهو القول الثالث- غير بعيد من الصواب، إلا أنه كره القول به لخلافه أقوال السلف، بقوله: «ولكن الأخبار المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه، وكرهنا القول به من أجل ذلك». ثم ذكر له توجيهًا، فقال: «على أنه غير مُسْتَنْكَرٍ أن تكون المسألة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كانت فيما سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها، كما كره لهم المسألة عن الحج؛ أكُلَّ عامٍ هو؟ أم عامًا واحدًا؟ وكما كره لعبد الله بن حذافة مسألته عن أبيه، فنزلت الآية بالنهي عن المسائل كلها، فأخبر كلُّ مُخبِرٍ منهم ببعض ما نزلت الآية من أجله وأجْل غيره». وعلَّق ابنُ عطية (٣/ ٢٧١) على القول الثاني بقوله: «ويقوي هذا حديثُ سعد بن أبي وقاص أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: «إنّ أعظم المسلمين على المسلمين جرمًا مَن سأل عن شيءٍ لم يُحَرَّم، فحُرِّم من أجل مسألته»». وعلَّق ابنُ كثير (٥/ ٣٨٧) على قول عكرمة -وهو من أصحاب القول الأول-، فقال: «يعني عكرمة: أنّ المراد بهذا النهي عن سؤال وقوع الآيات، كما سألت قريش أن يجري لهم أنهارًا، وأن يجعل لهم الصفا ذهبًا وغير ذلك، وكما سألت اليهود أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، وقد قال الله تعالى: {وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلا أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وما نُرْسِلُ بِالآياتِ إلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: ٥٩]. وقال تعالى: {وأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إنَّما الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وما يُشْعِرُكُمْ أنَّها إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُمْ وأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ ونَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ * ولَوْ أنَّنا نزلْنا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلَّمَهُمُ المَوْتى وحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ ولَكِنَّ أكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: ١٠٩ - ١١١]». وزاد ابنُ عطية (٣/ ٢٧٢) قولًا، فقال: «وروي أنّه لَمّا بيَّن الله تعالى في هذه الآيات أمر الكعبة والهدي والقلائد، وأعلم أن حرمتها هو الذي جعلها، إذ هي أمور نافعة قديمة من لدن عهد إبراهيم - عليه السلام -؛ ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية؛ ليروا هل تلحق بتلك أم لا، إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان والمغيرين لدين إبراهيم وإسماعيل?، كعمرو بن لحي وغيره».