شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله} [القصص: ٧٥]. فكيف عَلِموا وقد قالوا:{لا علم لنا}؟ وأخبرني عن قول الله:{ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون}[الزمر: ٣١]، وقال في آيةٍ أُخرى:{لا تختصموا لدي}[ق: ٢٨]. فكيف يَختَصِمون وقد قال:{لا تختصموا لدي}؟ وأخبِرني عن قول الله:{اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم}[يس: ٦٥]، فكيف شَهِدوا وقد ختَم على الأفواه؟ فقال ابن عباس: ثَكِلتك أُمُّك، يا ابن الأزرق! إنّ للقيامةِ أحوالًا وأهوالًا وفظائعَ وزلازل، فإذا تشَقَّقَتِ السماواتُ، وتناثَرَتِ النجوم، وذَهَب ضَوء الشمس والقمر، وذهَلَت الأمهاتُ عن الأولاد، وقَذَفَت الحواملُ ما في البطون، وسُجِّرتِ البحار، ودُكدِكَتِ الجبال، ولم يَلتَفِت والدٌ إلى ولد، ولا ولدٌ إلى والد، وجِيءَ بالجنةِ تَلُوحُ فيها قِبابُ الدُّرِّ والياقوت، حتى تُنصَبَ على يمين العرش، ثم جِيءَ بجهنمَ تُقادُ بسبعينَ ألفَ زِمامٍ مِن حديد، مُمسِكٌ بكلِّ زِمامٍ سبعون ألفَ مَلَكٍ، لها عَينانِ زَرقاوانِ، تُجَرُّ الشَّفَةُ السفلى أربعين عامًا، تَخطِرُ كما يخطِرُ الفَحْل، لو تُرِكَت لَأَتَت على كلِّ مؤمنٍ وكافر، ثم يُؤتى بها حتى تُنصَبَ عن يسار العرش، فتَستَأذِنُ ربَّها في السجود، فيَأذَنُ لها، فتَحمَدُه بمحامدَ لم يَسمَعِ الخلائقُ بمثلِها؛ تقولُ: لك الحمدُ إلهي إذ جَعَلتني أنتقِمُ من أعدائك، ولم تَجعَل لي شيئًا مما خَلَقتَ تَنتَقِمُ به منِّي، إلَيَّ أهلي. فلَهِيَ أعرَفُ بأهلِها مِن الطيرِ بالحَبِّ على وجه الأرض، حتى إذا كانت مِن الموقفِ على مسيرةِ مائةِ عامٍ -وهو قولُ الله تعالى:{إذا رأتهم من مكان بعيد}[الفرقان: ١٢] زَفَرت زفرةً، فلا يَبقى مَلَكٌ مقرَّبٌ، ولا نبي مرسَلٌ، ولا صِدِّيق منتخَبٌ، ولا شهيدٌ مما هُنالِك إلا خَرَّ جاثيًا على ركبتَيه، ثم تَزفِرُ الثانيةَ زفرةً، فلا يَبقى قطرةٌ من الدموعِ إلا بَدَرَت، فلو كان لكلِّ آدميٍّ يومئذٍ عملُ اثنين وسبعين نبيا لَظَنَّ أنه سيُواقِعُها، ثم تَزفِرُ الثالثةَ زفرةً، فتنقَلِعُ القلوبُ من أماكنِها، فتَصيرُ بينَ اللَّهَواتِ والحناجِر، ويَعلو سوادُ العيون بياضَها، يُنادي كلُّ آدميٍّ يومئذٍ: يا ربِّ، نفسي نفسي، لا أسألُك غيرها. حتى إنّ إبراهيمَ لَيَتعَلَّقُ بساق العرش يُنادي: يا ربِّ، نفسي نفسي، لا أسألُك غيرها. ونبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول:«يا ربِّ، أُمَّتي أُمَّتي». لا هِمَّةَ له غيرُكم، فعندَ ذلك يُدعى بالأنبياء والرسل، فيُقالُ لهم: ماذا أُجِبتم؟ قالوا: لا علمَ لنا. طاشَتِ الأحلام، وذَهَلَتِ العقول، فإذا رَجَعتِ القلوب إلى أماكنها {نزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله}. وأما قوله تعالى:{ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} فهذا وهُم بالموقفِ يَختصِمون، فيُؤخَذُ للمظلوم