الحَوارِيُّون عيسى ابنَ مريمَ المائدة كَرِه ذلك جِدًّا، وقال: اقنَعوا بما رزقكم الله في الأرض، ولا تسألوا المائدة من السماء، فإنها إن نزلت عليكم كانت آيةً مِن ربِّكم، وإنما هَلَكَت ثمودُ حِينَ سألوا نبيهم آيةً، فابتُلُوا بها حتى كان بَوارُهم فيها. فأَبَوا إلا أن يَأتِيَهم بها، فلذلك قالوا:{نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين}. فلما رأى عيسى أن قد أبَوا إلا أن يَدعُوَ لهم بها، قام فألقى عنه الصُّوفَ، ولَبِسَ الشعَرَ الأسود، وجُبَّةً مِن شعَرٍ، وعَباءَةً مِن شعَرٍ، ثم تَوضَّأ واغتَسَل، ودخَل مُصَلّاه، فصَلّى ما شاء الله، فلمّا قضى صلاتَه قام قائِمًا مُستَقبِلَ القِبلة، وصَفَّ قَدَمَيه حتى استَوَيا، فألصَق الكعبَ بالكعب، وحاذى الأصابعَ بالأصابع، ووضَع يدَه اليُمنى على اليُسرى فوق صدرِه، وغضَّ بصرَه، وطَأْطَأْ رأسَه خُشوعًا، ثم أرسَل عَينَيه بالبكاء، فما زالت دموعُه تَسيلُ على خَدَّيه، وتَقطُرُ مِن أطرافِ لحيتِه، حتى ابتَلَّتِ الأرضُ حِيالَ وجهِه مِن خشوعِه، فلمّا رأى ذلك دعا الله، فقال:{اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا} تكونُ عظةً منك لنا، {وآية منك} أي: علامةً منك، تكونُ بينَنا وبينَك، وارزُقنا عليها طعامًا نَأكُلُه، {وأنت خير الرازقين}. فأنزل الله عليهم سُفرَةً حَمراءَ بينَ غَمامَتَين؛ غَمامةٍ فوقَها، وغَمامةٍ تحتَها، وهم ينظرون إليها في الهواء مُنقَضَّةً مِن فَلَكِ السماء تَهوِي إليهم، وعيسى يبكي خوفًا للشُّروطِ التي اتخَذ الله عليهم فيها؛ أنه يُعَذِّبُ مَن يَكفُرُ بها منهم بعدَ نزولها عذابًا لم يُعَذِّبه أحدًا مِن العالَمين، وهو يدعو اللهَ في مكانِه، ويقول: إلهي، اجعَلها رحمةً، إلهي، لا تَجعَلها عذابًا، إلهي، كم مِن عَجيبةٍ سَألتُك فأعطَيتَني، إلهي، اجعَلنا لك شاكِرِين، إلهي، أعُوذُ بك أن تكونَ أنزَلتَها غضبًا ورِجزًا، إلهي، اجعَلها سلامةً وعافيةً، ولا تَجعَلها فتنةً ومُثلَةً. فما زال يدعو حتى استَقَرَّتِ السُّفرةُ بينَ يدي عيسى، والحَوارِيُّون وأصحابُه حولَه، يَجِدون رائحةً طيبةً، لم يجدوا فيما مضى رائحةً مِثلَها قَطُّ، وخَرَّ عيسى والحواريون لله سُجَّدًا؛ شُكرًا له بما رزقهم مِن حيث لم يَحتَسِبوا، وأراهم فيه آيةً عظيمةً ذاتَ عَجَبٍ وعِبرَةٍ، وأقبَلَتِ اليهود ينظُرُون، فرَأَوا أمرًا عجيبًا أورَثَهم كَمَدًا وغَمًّا، ثم انصرفوا بغيظٍ شديدٍ، وأقبَل عيسى والحَوارِيُّون وأصحابُه حتى جَلَسوا حولَ السُّفرة، فإذا عليها مِندِيلٌ مُغَطًّى، قال عيسى: مَن أجرَؤُنا على كشفِ المنديلِ عن هذه السُّفرة، وأوثَقُنا بنفسِه، وأحسَنُنا بلاءً عندَ ربِّه، فَليَكشِف عن هذه الآية حتى نراها، ونَحمَدَ ربَّنا، ونَذكُرَ باسمِه، ونَأكُلَ مِن رزقِه الذي رَزَقَنا؟ فقال الحَوارِيُّون: يا رُوحَ الله