للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وكلمتَه، أنت أولانا بذلك، وأحَقُّنا بالكشف عنها. فقام عيسى، فاستَأنَف وُضُوءًا جديدًا، ثم دخَل مُصَلّاه، فصلّى بذلك رَكَعات، ثم بكى طويلًا، ودعا الله أن يأذَنَ له في الكشف عنها، ويَجعَلَ له ولقومِه فيها بركةً ورزقًا، ثم انصرف، وجلس إلى السُّفرة، وتناول المنديل، وقال: بسم الله خيرِ الرازقين. وكَشَف عن السفرة، وإذا هو عليها سمكةٌ ضخمةٌ مَشوِيَّةٌ، ليس عليها بَواسِير، وليس في جَوفِها شَوكٌ، يَسيلُ السمنُ منها سَيلًا، قد نُضِّد حولَها بقُولٌ مِن كلِّ صِنفٍ غيرَ الكُرّاث، وعندَ رأسِها خَلٌّ، وعندَ ذَنَبِها مِلحٌ، وحولَ البُقُولِ خمسةُ أرغِفَةٍ، على واحدٍ منها زيتونٌ، وعلى الآخَر ثَمَراتٌ، وعلى الآخر خمسُ رُمّاناتٍ، فقال شَمعون رأسُ الحَوارِيِّين لعيسى: يا رُوحَ الله وكلمتَه، أمِن طعامِ الدنيا هذا، أم مِن طعامِ الجنة؟ فقال: أما آن لكم أن تَعتَبروا بما تَرَون مِن الآيات، وتَنتَهوا عن تَنقِيرِ المسائل، ما أخوَفَني عليكم أن تُعاقَبوا في سبب هذه الآية. فقال شمعون: لا وإلهِ إسرائيلَ، ما أردتُ بها سُوءًا، يا ابنَ الصِّدِّيقة. فقال عيسى: ليس شيءٌ ممّا تَرَون عليها مِن طعامِ الجنة، ولا مِن طعام الدنيا، إنما هو شيءٌ ابتَدَعه اللهُ في الهواءِ بالقُدرةِ الغالِبَة القاهِرَة؛ فقال له: كُن. فكان أسرعَ مِن طرفةِ عين، فكُلُوا مما سَألتُم باسم الله، واحمدُوا عليه ربَّكم، يُمِدَّكم منه ويَزِدكم، فإنه بَديع قادر شاكر. فقالوا: يا روح الله وكلمته، إنّا نحبُّ أن تُرِيَنا آيةً في هذه الآية. فقال عيسى: سبحان الله، أما اكتَفَيتُم بما رأَيتُم مِن هذه الآية حتى تَسأَلوا فيها آيةً أُخرى! ثم أقبَل عيسى على السمكة، فقال: يا سمكةُ، عُودي بإذنِ اللهِ حيَّةً كما كُنتِ. فأحياها اللهُ بقُدرتِه، فاضطَرَبَت وعادت بإذنِ الله حَيَّةً طَرِيَّةً، تَلَمَّظُ كما يَتَلَمَّظُ الأسد، تدُورُ عَيناها، لها بَصيصٌ، وعادت عليها بَواسِيرُها، ففَزِع القومُ منها وانحاسوا (١)، فلمّا رأى عيسى ذلك منهم فقال: ما لكم تَسأَلون الآيةَ، فإذا أراكُمُوها ربُّكم كَرِهتُمُوها؟! ما أخوَفَني عليكم أن تُعاقَبوا بما تَصنعون، يا سمكةُ، عُودِي بإذن الله كما كُنتِ. فعادتْ بإذن الله مشويَّةً كما كانت في خَلقِها الأول، فقالوا لعيسى: كُن أنت يا رُوحَ اللهِ الذي تَبدَأُ بالأكلِ منها، ثم نحنُ بعدُ. فقال: مَعاذَ اللهِ مِن ذلك، يَبدَأُ بالأكلِ مَن طَلَبَها. فلَمّا رأى الحَوارِيُّون وأصحابُهم امتِناعَ نبيهم منها خافوا أن يكونَ نزولها سُخطَةً، وفي أكلِها مُثلَةً، فتحامَوها، فلمّا رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراءَ والزَّمنى، وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم،


(١) حاسوا وجاسوا، بِمَعنًى واحد: يذهبون ويجيئون. اللسان (جوس).

<<  <  ج: ص:  >  >>