للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

واحمَدوا اللهَ الذي أنزَلَها لكم؛ ليكون مَهناها لكم وعقوبتُها على غيرِكم، وافتَتِحوا أكلَكم باسم الله، واختِموه بحمدِ الله. ففعلوا، فأكل منها ألفٌ وثلاثُمائةِ إنسان، بين رجلٍ وامرأةٍ، يَصدُرون عنها كلُّ واحدٍ منهم شبعان يَتَجَشَّأُ، ونظَر عيسى والحَوارِيُّون فإذا ما عليها كهيئةِ إذ نَزَلَت مِن السماء، لم يُنتَقَص منه شيءٌ، ثم إنها رُفِعَت إلى السماء وهم يَنظُرون، فاستَغنى كلُّ فقيرٍ أكَل منها، وبَرِئ كلُّ زمنٍ منهم أكَل منها، فلم يزالوا أغنياءَ صِحاحًا حتى خرَجوا مِن الدنيا، ونَدِم الحَواريُّون وأصحابُهم الذين أبَوا أن يَأكُلوا منها نَدامةً سالت منها أشفارُهم، وبَقِيتْ حَسرتُها في قلوبِهم إلى يوم الممات. قال: فكانتِ المائدةُ إذا نَزَلَتْ بعدَ ذلك أقبَلَت بنو إسرائيلَ إليها مِن كلِّ مكانٍ يَسعَون، يُزاحِمُ بعضُهم بعضًا، الأغنياءُ والفقراء، والنساءُ والصِّغارُ والكِبار، والأصِحّاءُ والمرضى، يرَكَبُ بعضُهم بعضًا، فلما رأى عيسى ذلك جَعَلَها نُوَبًا بينَهم، فكانت تَنزِلُ يومًا ولا تَنزِلُ يومًا، فلَبِثوا في ذلك أربعين يومًا، تَنزِلُ عليهم غِبًّا عندَ ارتفاعِ الضُّحى، فلا تَزالُ موضوعةً يُؤكَلُ منها، حتى إذا قالوا ارتَفَعَت عنهم بإذن الله إلى جوِّ السماء، وهم يَنظُرُون إلى ظِلِّها في الأرضِ حتى تَوارى عنهم، فأوحى اللهُ إلى عيسى: أنِ اجعَل رزقي في المائدة لليَتامى والفقراءِ والزَّمنى، دُونَ الأغنياء مِن الناس. فلما فعَل اللهُ ذلك ارتاب بها الأغنياءُ، وغَمَصوا (١) ذلك، حتى شَكُّوا فيها في أنفسِهم، وشَكَّكوا فيها الناس، وأذاعوا في أمرِها القبيحَ والمنكرَ، وأدرَك الشيطانُ منهم حاجَتَه، وقذَف وسْواسَه في قلوبِ المرتابين، حتى قالوا لعيسى: أخبرنا عن المائدة ونزولها مِن السماء حقٌّ؛ فإنه ارتاب بها بشرٌ منّا كثيرٌ؟ قال عيسى: هلَكتُم، وإلهِ المسيح، طَلَبتُم المائدةَ إلى نبيكم أن يَطلُبَها لكم إلى ربِّكم، فلما أن فعل وأنزَلَها الله عليكم رحمةً ورزقًا، وأَراكم فيها الآياتِ والعِبَر؛ كَذَّبتم بها، وشَكَكتُم فيها! فأبشِروا بالعذاب، فإنه نازِلٌ بكم إلا أن يَرحَمَكم الله. وأوحى اللهُ إلى عيسى: إنِّي آخِذٌ المكذِّبين بشَرطي، فإنِّي مُعذِّبٌ منهم مَن كفَر بالمائدةِ بعدَ نزولها عذابًا لا أُعَذِّبُه أحدًا مِن العالمين. فلمّا أمسى المرتابون بها، وأخَذوا مَضاجِعَهم في أحسَن صورةٍ من نسائِهم آمِنِين، فلما كان مِن آخِرِ الليلِ مَسَخَهم اللهُ خنازير، وأصبَحوا يَتتبعون الأقذارَ في الكُناسات (٢). (٥/ ٥٩٤)


(١) عند ابن أبي حاتم: «غمطوا». وكلاهما بمعنى الاستهانة والاستحقار. ينظر: النهاية (غمص، غمط).
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٤/ ١٢٤٤ - ١٢٥٥، وأبو الشيخ في العظمة (١٠١١). وعزاه السيوطي إلى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبي برك الشافعي في فوائده المعروفة بالغَيلانيات.

<<  <  ج: ص:  >  >>