للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار التي تكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك وبآثار الصحابة والتابعين؛ بل بأقوال المشايخ والإسرائيليات والمنامات مما يصلح للاعتضاد، فما يصلح للاعتضاد نوع وما يصلح للاعتماد نوع. . . ولو كان عبد اللَّه بن لهيعة ذاكرًا لا آثِرًا ولم ينكره المسلمون عليه لكان في ذلك مستند لهذا الإطلاق؛ فإن الرجل قاضي مصر في ذلك الزمان وهو من أكبر العلماء المفتين ونظير لليث بن سعد، والغلط الذي وقع في حديثه لا يمنعه أن يكون من أهل الاجتهاد والفتيا مثل محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة وكان زمانهما متقاربًا؛ فإنه من أعيان الفقهاء المفتين وإن كان في حديثه ضعف، وكذلك شريك بن عبد اللَّه وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهم من المشهورين بالفتيا؛ إذا تكلم في حديثهم لم يمنع هذا أن يكونوا من المجتهدين المفتين. إذا كان النزاع في إطلاق لفظ وقد أطلقه أحد هؤلاء العلماء إما آثرًا وإما ذاكرًا وسمعه الناس منه ونقلوه عنه ولم يعرف أن أحدًا أنكره علم أن علماء المسلمين كانوا يتكلمون بمثل هذا اللفظ، وأن المتكلم به ليس خارقًا للإجماع ولا مبتدعا لفظًا لم يسبق إليه" (١).

وهو كلام في غاية النفاسة لبيان أهمية فهم غرض العالم من إيراد الخبر الضعيف، وأن للعلماء في ذلك مقاصد ينبغي أن تُفقه وتُفهم؛ وقد بيّن العلامة محمود محمد شاكر جانبًا من ذلك أثناء تعليقه على تفسير الطبري؛ فقال عند قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: ٣٠]: "تبين لي مما راجعته في كتاب الطبري؛ أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها، لا يراد به إِلا تحقيق معنى لفظ، أو بيان سياق عبارة؛ فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسناده ليدل على معنى الخليفة والخلافة، وكيف اختلف المفسرون من الأولين في معنى الخليفة، وجعل استدلاله بهذه الآثار كاستدلال المستدل بالشعر على معنى لفظ في كتاب اللَّه، وهذا بيِّن في الفقرة التالية للأثر رقم (٦٠٥)؛ إذ ذكر ما روى عن ابن مسعود وابن عباس، وما روى عن الحسن في بيان معنى الخليفة، واستظهر ما يدل عليه كلام كل منهم، ومن أجل هذا الاستدلال لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه، ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر (٤٦٥) عن ابن مسعود وابن عباس، فيما مضى ص ٣٥٣: "فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا؛ إذ كنت بإسناده مرتابًا. . . "، فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ


(١) تلخيص كتاب الاستغاثة ١/ ٣٠٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>