وقد رجَّح ابنُ جرير (٩/ ٣٩٧ - ٣٩٨) مستندًا إلى السياق، والدلالة العقلية القول الثالث، وذلك أنّ سياق الآيات في الإخبار عن كفار قريش، ولم يَجْرِ لليهود قبل هذا ذكرٌ، إضافةً إلى أن المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود، ولم يُعرَف عنهم إنكار إنزال الكتب من السماء. ثم وجَّه القول الأول والثاني، فقال: «ولكنِّي أظنُّ أنّ الذين تأوَّلوا ذلك خبرًا عن اليهود؛ وجدوا قوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا وعُلِّمْتُم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم}، فوجَّهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة، فقرءوه على وجه الخطاب لهم: {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وتُخْفُونَ كَثِيرًا وعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ ولا آباؤُكُمْ}، فجعلوا ابتداء الآية خبرًا عنهم، إذ كانت خاتمتها خطابًا لهم عندهم». ووافقه ابنُ كثير (٦/ ١١٠ - ١١١) وزاد مستند أحوال النزول؛ وذلك أنّ الآية مكية، والعرب قاطبة كانوا يُبعِدون إرسال رسولٍ من البشر، واستدل بقوله تعالى: {أكانَ لِلنّاسِ عَجَبًا أنْ أوْحَيْنا إلى رَجُلٍ مِنهُمْ أنْ أنْذِرِ النّاسَ وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: ٢]، وبقوله تعالى: {وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى إلا أنْ قالُوا أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا} [الإسراء: ٩٤]. وعلَّق ابنُ عطية (٣/ ٤١٥) بقوله: «مَن قال: إنّ المراد: كفار العرب. فيجيء الاحتجاج عليهم بقوله: {مَن أنْزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى} احتجاجًا بأمر مشهور منقول بكافة قوم لم تكن العرب مكذبة لهم. ومن قال: إن المراد: بنو إسرائيل. فيجيء الاحتجاج عليهم مستقيمًا؛ لأنهم يلتزمون صحة نزول الكتاب على موسى». ثم عقَّب ابنُ جرير (٩/ ٣٩٨) على القراءة، فقال: «والأصوب من القراءة في قوله: «يَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ يُبْدُونَها ويُخْفُونَ كَثِيرًا» أن يكون بالياء لا بالتاء، على معنى: أنّ اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا، ويكون الخطاب بقوله: {قل من أنزل الكتاب} لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد -إن شاء الله- في تأويل ذلك، وكذلك كان يقرأ».