ورجَّحَ ابنُ جرير (٩/ ٦١١ - ٦١٤ بتصرف) القولَ الثالثَ -وهو القول بالنسخ- استنادًا إلى السياق، والدلالة العقلية، والإجماع على أنّ صدقة الحرث لا تؤخذ إلا بعد الدِّياس والتنقية والتذرية، وأنّ صدقة التمر لا تؤخذ إلا بعد الجفاف. وبيَّنَ أنّ نصَّ الآية يفيد أنّ إيتاء الحقِّ يوم الحصاد، فعلى ذلك يكون الحقُّ المذكور في الآية مغايرًا للزكاة المفروضة المجمع على صفتها. ثم انتَقَدَ القولَ بإيجاب حقٍّ في المال سوى الصدقة المفروضة بأنّه لا يخلو أن يكون ذلك فرضًا واجبًا، أو نَفْلًا. فإن يكن فرضًا واجبًا يكن مَن فرَّط في أدائه إلى أهله آثمًا، وفي قيام الحجة بأن لا فرض لله في المال بعد الزكاة ما يُنبِئُ عن أنّ ذلك ليس كذلك. أو يكون ذلك نَفْلًا فيجب على ذلك أن يكون الخيارُ في إعطاء ذلك إلى ربِّ الحرث والثمر، وفي إيجاب القائلين بوجوب ذلك ما يُنبِئ عن أنّ ذلك ليسَ كذلك. وإذا خرجت الآية من أن يكون مرادًا بها الندب، وكان غير جائز أن يكون لها مخرجٌ في وجوب الفرض بها في هذا الوقت؛ عُلِم أنها منسوخة. ثم قال: «ومِمّا يُؤَيِّد ما قلنا في ذلك من القول دليلًا على صحته أنّه -جلَّ ثناؤه- أتبع قوله: {وآتوا حقه يوم حصاده}: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}، ومعلومٌ أنّ مِن حُكْم الله في عباده مُذْ فَرَض في أموالهم الصدقة المفروضةَ المؤقتةَ القدرِ أنّ القائم بأخذ ذلك ساستهم ورُعاتهم. وإذا كان ذلك كذلك فما وجه نهي ربِّ المال عن الإسراف في إيتاء ذلك، والآخِذ مُجْبِرٌ، وإنما يأخذ الحق الذي فرض لله فيه؟ فإن ظن ظانٌّ أن ذلك إنما هو نهيٌ من الله القيِّمَ بأخذ ذلك من الرعاة عن التعدِّي في مال رب المال، والتجاوزِ إلى أخْذِ ما لم يُبَحْ له أخذه، فإنّ آخر الآية -وهو قوله: {ولا تسرفوا} - معطوف على أوله، وهو قوله: {وآتوا حقه يوم حصاده}. فإن كان المنهيَّ عن الإسراف القيِّمُ بقبض ذلك، فقد يجب أن يكون المأمورُ بإيتائه المنهيَّ عن الإسراف فيه، وهو السلطان. وذلك قولٌ إن قاله قائلٌ كان خارجًا من قول جميع أهل التأويل، ومخالفًا المعهود من الخطاب، وكفى بذلك شاهدًا على خطئه. فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معنى قوله: {وآتوا حقه يوم حصاده}: وآتوا حقَّه يوم كيله، لا يوم قصله وقطعه، ولا يوم جداده وقطافه، فقد علمتَ مَن قال ذلك من أهل التأويل؟ ... قيل: لأنّ يوم كيله غير يوم حصاده، ولن يخلو معنى قائلي هذا القول من أحد أمرين: إما أن يكونوا وجّهوا معنى الحصاد إلى معنى الكيل، فذلك ما لا يعقل في كلام العرب؛ لأنّ الحصاد والحصد في كلامهم: الجدّ والقطع، لا الكيل. أو يكونوا وجّهوا تأويل قوله: {وآتوا حقه يوم حصاده} إلى: وآتوا حقه بعد يوم حصاده إذا كِلتموه. فذلك خلاف ظاهر التنزيل، وذلك أنّ الأمر في ظاهر التنزيل بإيتاء الحقِّ منه يوم حصاده، لا بعد يوم حصاده، ولا فرقَ بين قائلٍ: إنما عنى الله بقوله: {وآتوا حقه يوم حصاده}: بعد يوم حصاده. وآخرَ قال: عنى بذلك قبل يوم حصاده. لأنهما جميعًا قائلان قولًا دليلُ ظاهر التنزيل بخلافه». واسْتَدْرَكَ ابنُ كثير (٦/ ١٨٩) على هذا القول بقوله: «وفي تسمية هذا نسخًا نظر؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل، ثم إنّه فصّل بيانه، وبين مقدار المخرج وكميته. قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة». وانتَقَدَ ابنُ عطية (٣/ ٤٧٦) مستندًا إلى إمكان الجمع بين هذه الآية، وآية الزكاة القولَ بالنسخ، فقال: «والنسخ غير مترتب في هذه الآية؛ لأنّ هذه الآية وآية الزكاة لا تتعارض، بل تنبني هذه على الندب، وتلك على الفرض». وانتَقَدَ ابنُ عطية (٣/ ٤٧٥) أيضًا -مستندًا إلى أحوال النزول، وأنّ بعض ما ذُكِرَ في الآية لا زكاة فيه- القولَ بأنها في الزكاة المفروضة، بقوله: «هذا قولٌ مُعْتَرَض بأنّ السورة مكية، وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة، وحكى الزجّاج أنّ هذه الآية قيل فيها: إنها نزلت بالمدينة. ومعترض أيضًا بأنّه لا زكاة فيما ذُكِر من الرمان وجميع ما هو في معناه».