للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عهود بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قبائل مِن العرب خصائص إلى أجل مُسَمًّى، فنزلت فيه وفيمن تخلَّف عنه من المنافقين في تبوك، وفي قول مَن قال منهم، فكشف الله فيها سرائرَ أقوامٍ كانوا يَسْتَخْفُون بغير ما يُظهِرون، منهم مَن سُمِّي لنا، ومنهم مَن لم يُسَمَّ لنا، فقال: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} أي: لأهل العهد العامِّ مِن أهل الشرك من العرب، {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} إلى قوله: {أن الله بريء من المشركين ورسوله} أي: بعد هذه الحجة (١). (ز)

٣١٥٩٢ - قال سفيان الثوري، في قوله: {أربعة أشهر}: عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفرًا، وشهر ربيع الأول، وعشرًا من ربيع الآخر (٢) [٢٨٨٥]. (ز)

٣١٥٩٣ - قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نَقَضَ كلَّ عهد كان أكثر من أربعة أشهر، فردَّه إلى الأربعة (٣) [٢٨٨٦]. (ز)


[٢٨٨٥] ذكر ابنُ تيمية (٣/ ٣٠١) ثلاثة أقوال في تعيين الأشهر الحرم في هذه الآية: الأول: أنّها الأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، المذكورة في قوله تعالى: {منها أربعة حرم}. الثاني: أولها يوم النحر، وآخرها العاشر من ربيع الآخر. الثالث: أن آخرها عاشر من ربيع الأول. ورجَّح ابنُ تيمية القول الثاني مستندًا إلى الإجماع، وهو قول مجاهد، والضحاك، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي، وسفيان الثوري. وذكر أنّ القول الثاني يُحكى عن ابن عباس، ثم انتَقَدَه بقوله: «ولا يصِحُّ عنه». وجمع بين القولين الثاني والثالث بقوله: «ولا منافاة بين القولين؛ فإنه باتفاق الناس أنّ الصديق نادى بذلك في الموسم في المشركين: إنّ لكم أربعة أشهر تسيحون فيها، ويوم النحر كان ذلك العام بالاتفاق عاشر ذي القعدة».
[٢٨٨٦] أفادت الآثارُ اختلاف المفسرين فيمن أُذِن له بالسياحة في الأرض أربعة أشهر مِمَّن برئ الله ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول الله من المشركين على أقوال: الأول: مَن كان له عهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمَن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رُفِع إليها، ومَن كانت مدة عهده بغير أجل محدود قُصِر به على أربعة أشهر، ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين، يقتل حيثما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب. الثاني: مَن كان له عهد أُمهِل بالسياحة أربعة أشهر، ومَن لم يكن له عهد فإنّما كان أجله خمسين ليلة؛ عشرون من ذي الحجة والمحرم كله. وهؤلاء انقسموا إلى فريقين في ابتداء مدة الإمهال وانقضائها: الفريق الأول: قالوا: مَن كان له عهد: فابتداء إمهاله يوم نزول براءة أول شوال، ومَن لم يكن له عهد فابتداء إمهاله يوم النداء، وهو يوم الحج الأكبر، وانقضاؤهما: بانسلاخ الأشهر الحرم، وذلك بانقضاء المحرَّم. والفريق الثاني: قالوا: مَن كان له عهد، ومن لم يكن له عهد، فابتداء الإمهال لهما واحد: وهو يوم النداء بالحج، ثم مَن كان له عهد فانقضاء إمهاله إلى العاشر من شهر ربيع الآخر، ومن لم يكن له عهد فانقضاء إمهاله بانسلاخ الأشهر الحرم، وذلك بانقضاء المحرَّم. الثالث: ابتداء الإمهال لِمَن كان له عهدٌ ومَن لم يكن له عهدٌ مِن المشركين وانقضاؤه لجميعهم وقتٌ واحدٌ، قالوا: وكان ابتداؤه يوم الحج الأكبر، وانقضاؤه بانقضاء عشرٍ من ربيعٍ الآخر. الرابع: ابتداء الإمهال لِمَن كان له عهدٌ ومَن لم يكن له عهد من المشركين وانقضاؤه لجميعهم وقتٌ واحدٌ، قالوا: كان ابتداؤه يوم نزلت براءة، وانقضاؤه بانقضاء الأشهر الحرُم، وذلك بانقضاء المحرَّم. الخامس: مَن كان له عهد أقل من أربعة أشهر رُفِع إليها، ومَن كان له عهد أكثر من أربعة أشهر فإنه - صلى الله عليه وسلم - أُمِر أن يُتِمَّ له عهده إلى مدته.
ورجَّح ابنُ جرير (١١/ ٣١١) مستندًا إلى السنة، وظاهر الآية أنّ «الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأَذِن لهم بالسياحة فيه بقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ} إنّما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يُظاهِروا عليه فإنّ الله -جلَّ ثناؤه- أمَر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: {إلا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} [التوبة: ٤]». ثم قال (١١/ ٣١٨): «وعلى ذلك دلَّ ظاهرُ التنزيل، وتظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
وبيَّن ابنُ جرير أنّ ابتداء الأشهر الأربعة -لِمَن كان له هذا الإمهال- مِن يوم الحج الأكبر، وانقضاؤها بانقضاء عشرٍ من ربيعٍ الآخر، وانتَقَدَ (١١/ ٣١٩) مستندًا إلى الدلالة العقلية مَن قال بأنّ الإمهال كان في شوال مِن وقت نزول براءة بأنّ ذلك «غيرُ جائزٍ أن يكون صحيحًا؛ لأنّ المجعول له أجلَ السياحة إلى وقتٍ محدود إذا لم يَعْلَم ما جُعِل له -ولا سيَّما مع عَهْدٍ له قد تَقَدَّم قبل ذلك بخلافه- فكمَن لم يُجعَل له ذلك؛ لأنه إذا لم يَعْلَم ما له في الأجل الذي جُعِل له، وما عليه بعد انقضائه، فهو كهيئته قبل الذي جُعِل له من الأجل، ومعلومٌ أنّ القوم لم يعلموا بما جُعِل لهم من ذلك إلا حين نودي فيهم بالموسم».
وكذا انتَقَدَ ابنُ عطية (٤/ ٢٥٤) مَن قال بذلك، فقال: «اعتُرِض هذا بأنّ الأجل لا يلزم إلا مِن يوم سُمِع». إلا أنّه التمس له وجْهًا يمكن أن يُحمَل عليه، فقال: «ويحتمل أنّ البراءة قد كانت سُمِعت من أول شوال، ثم كرر إشهارها مع الأذان يوم الحج الأكبر».
وحكى ابنُ كثير (٧/ ١٣٨) هذا القول عن الزهري، ثم انتَقَدَه بنحو ما ذكر ابنُ جرير، وابنُ عطية.
وانتَقَدَ ابنُ جرير (١١/ ٣١٢) مستندًا إلى القرآن مَن ظنَّ بأنّ قوله تعالى: {فَإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ} يدلُّ على أنّ الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحُرُم قتلَ كلِّ مُشْرِك، بأنّ الآية التي تتلو ذلك -وهي قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ إلا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ فَما اسْتَقامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} [التوبة: ٧]- تُنبِئُ عن صحة ما قال «فهؤلاء مشركون، وقد أمَر الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بتَرْكِ نَقْضِ صُلْحِهم، وتَرْكِ مظاهرة عَدُوِّهم عليهم».

<<  <  ج: ص:  >  >>