للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٣٢٤٢١ - عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: لم أعْقِلْ أبوَيَّ قَطُّ إلا وهما يَدينان الدينَ، ولم يمرَّ علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - طرفَي النهار؛ بُكْرَةً وعَشِيَّةً، ولَمّا ابْتُلِي المسلمون خرج أبو بكر مُهاجِرًا قِبَلَ أرضِ الحبشة، حتى إذا بلَغ بَرْكَ الغِمادِ لَقِيَه ابن الدَّغِنَةِ، وهو سَيِّدُ القارَةِ (١)، فقال ابن الدَّغِنَةِ: أين تريدُ، يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأُريدُ أن أسيحَ في الأرضِ أعبُدُ ربِّي. قال ابن الدَّغِنَةِ: فإنّ مثلَك -يا أبا بكرٍ- لا يَخْرُجُ ولا يُخْرَجُ؛ إنّك تَكْسِبُ (٢) المعدومَ، وتَصِلُ الرحمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضيفَ، وتُعينُ على نوائبِ الحقِّ، فأنا لك جارٌ، فارْجِعْ فاعبُدْ ربّك ببلدك. فارْتَحَل ابن الدَّغِنَةِ، فرجع مع أبي بكر، فطاف ابن الدَّغِنَةِ في كفار قريش، فقال: لا يَخْرُجُ مثلُه ولا يُخْرَجُ، أتُخْرِجون رجلًا يَكسِبُ المعدومَ، ويَصِلُ الرَّحِمَ، ويَحْمِلُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضيفَ، ويُعينُ على نَوائبِ الحقِّ؟! فأنْفَذَت قريشٌ جوارَ ابن الدَّغِنَةِ، وأمَّنوا أبا بكرٍ، وقالوا لابن الدَّغِنَةِ: مُرْ أبا بكرٍ فلْيَعْبُدْ ربَّه في داره، ولْيُصَلِّ فيها ما شاء، ولْيَقْرَأ ما شاء، ولا يُؤْذِينا، ولا يَسْتَعلِن بالصلاة والقراءة في غير داره. ففعل، ثم بدا لأبي بكر فابْتَنى مسجدًا بفناء داره، فكان يُصَلِّي فيه ويَقْرَأُ، فَيَتَقَصَّفُ (٣) عليه نساءُ المشركين وأبناؤهم يَعْجَبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بكّاءً لا يَمْلِكُ دمعَه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشرافَ قريش، فأرسلوا إلى ابن الدَّغِنَةِ، فقدِم عليهم، فقالوا: إنما أجَرنا أبا بكر على أن يَعْبُدَ ربَّه في داره، وإنّه جاوز ذلك، فابْتَنى مسجدًا بفناء داره، وأعْلَن الصلاةَ والقراءةَ، وإنّا خشِينا أن يَفْتِنَ نساءَنا وأبناءَنا، فإن أحبَّ أن يَقْتَصِرَ على أن يعبُدَ ربَّه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يُعْلِنَ ذلك فسَلْهُ أن يَرُدَّ إليك ذِمَّتَك، فإنّا قد كرِهنا أن نُخْفِرَك، ولسنا مُقِرِّين لأبي بكر الاسْتِعلانَ. فأتى ابنُ الدَّغِنَة أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، قد علمِتَ الذي عَقَدْتُ لك عليه، فإمّا أن تقتصِر على ذلك، وإما أن تَرُدَّ إلَيَّ ذِمَّتي، فإنِّي لا أُحِبُّ أن تَسْمَعَ العربُ أنِّي أُخْفِرتُ في عقدِ رجلٍ عقَدتُ


(١) القارَةِ: وهي قبيلة مشهورة من بني الهُون -بالضم والتخفيف- بن خزيمة بن مُدْرِكَة بن إلْياس بن مُضر، وكانوا حلفاء بني زُهرة من قريش، وكانوا يضرب بهم المثل في قوة الرمي. الفتح ٧/ ٢٣٣.
(٢) قال في النهاية (عدم): تَكْسِبُ المعدوم: يقال: فلان يَكْسِبُ المعدوم إذا كان مجدودًا محظوظًا: أي يَكْسِب ما يُحْرَمه غيره. وقيل: تَكْسِبُ الناس الشيء المعدوم الذي لا يجدونه مما يحتاجون إليه. وقيل: المعدوم الفقير الذي صار من شدة حاجته كالمعدوم نفسه.
(٣) يَتَقَصَّف: يزدحمون. النهاية (قصف).

<<  <  ج: ص:  >  >>