[٣١٩٣] اختُلِفَ في المعنيِّ بهذه الآية على قولين: الأول: أنها في الكفار. الثاني: أنها في أهل الرياء من أهل القبلة. ووجَّه ابنُ عطية (٤/ ٥٥٠) القول الأول بقوله: «فأمّا مَن ذهب إلى أنها في الكفرة فمعنى قوله: {يريد}: يقصد ويعتمد، أي: هي وجهه ومقصده لا مقصد له غيرها. فالمعنى: مَن كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يعتقد آخرةً فإن الله يجازيه على حسن أعماله في الدنيا بالنعم والحواس وغير ذلك، فمنهم مُضَيَّق عليه، ومنهم مُوَسَّع له، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا النار، ولا تكون لهم حال سواها». ووجَّه القول الثاني بقوله (٤/ ٥٥١): «وأما من ذهب إلى أنها في العصاة من المؤمنين فمعنى {يريد} عنده: يحب ويؤثر ويفضل ويقصد، وإن كان له مقصد آخر بإيمانه، فإن الله يجازيه على تلك الأعمال الحسان التي لم يعملها لله بالنعم في الدنيا ثم يأتي قوله: {ليس لهم} بمعنى: ليس يجب لهم أو يحق لهم إلا النار، وجائز أن يتغمدهم الله برحمته، وهذا هو ظاهر ألفاظ ابن عباس، وسعيد بن جبير». ورجَّح ابنُ عطية (٤/ ٥٥١) القول الأول مستندًا إلى السياق، فقال بعد توجيهه له: «فاستقام هذا المعنى على لفظ الآية، وهو عندي أرجح التأويلات بحسب تقدم ذكر الكفار والمنافقين في القرآن فإنما قصد بهذه الآية أولئك». ورجَّح ابنُ القيم القول الثاني، وذكر أنّه يدل على صحة هذا القول في الآية قوله تعالى: {نوف اليهم أعمالهم فيها}، ثم أورد إشكالًا على هذا القول مفاده: أنّ الآية التالية لهذه الآية -وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلّا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} - تُوجِب على هذا القول تخليد المؤمن المريد بعمله الدنيا في النار، وذكر بعض أجوبة أهل العلم عن هذا الإشكال، ثم قال: «والآية -بحمد الله- لا إشكال فيها، والله سبحانه ذَكَر جزاء مَن يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها وهو النار، وأخبر بحبوط عمله وبطلانه، فاذا أحبط ما ينجو به وبطل لم يبق معه ما ينجيه، فإن كان معه إيمان لم يُرد به الدنيا وزينتها، بل أراد الله به والدار الآخرة لم يدخل هذا الإيمان في العمل الذى حبط وبطل وأنجاه إيمانه من الخلود في النار، وإن دخلها بحبوط عمله الذى به النجاة المطلقة، والإيمان إيمانان: إيمان يمنع من دخول النار، وهو الإيمان الباعث على أن تكون الأعمال لله يبتغى بها وجهه وثوابه، وإيمان يمنع الخلود في النار، وإن كان مع المرائي شيء منه وإلا كان من أهل الخلود، فالآية لها حكم نظائرها من آيات الوعيد والله الموفق، وذلك قوله: {مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ومَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنها وما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ} [الشورى: ٢٠]، ومنه قوله: {مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨) ومَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: ١٨ - ١٩]، فهذه ثلاث مواضع من القرآن يشبه بعضها بعضًا، ويصدق بعضها بعضًا، وتجتمع على معنى واحد، وهو أنّ مَن كانت الدنيا مراده ولها يعمل في غاية سعيه لم يكن له في الاخرة نصيب، ومن كانت الآخرة مراده ولها عمِلَ وهي غاية سعيه فهي له».